ورُبَّما يفسر هذا ما فعله الطبري عندما استشهد به على أن العرب قد تجمع بين اللغتين معًا، حيث لم يفرده بالاستشهاد، بل ضم إليه قول أبي ذؤيب الهذلي:

فَنَكِرْنَهُ فَنَفَرْنَ، وامْتَرَسَتْ بِهِ هَوجاءُ هاديةٌ، وهادٍ جُرْشُعُ (١)
وهذا من فطنة الطبري، وعدم ثقته بهذا الشاهد، وحسن بصره ودقته في التعامل مع الشاهد الشعري. وأما الزمخشري فقد استشهد به دون تنبيه على وضعه على غير عادته (٢). وقد يكون الفعل متعديًا في اللغة ثلاثيًا وغير ثلاثي (نَكِرَ وأَنْكَرَ)، وهما موجودان في شعر هذيل، ويبدو من دراسة شعرهم، استعمال الفعل (نَكِرَ) إذا شاب معنى الإنكار خوف وتوجس، مثل قول أبي ذؤيب السابق. وهذا المعنى هو الذي تؤديه الآية الكريمة ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ [هود: ٧٠] (٣).
أَمَّا (أنكر) فهو أقرب إلى معنى الإنكار الخالص، الذي قد يغلب فيه العجب والدهش، على التوجس والخوف، وذلك مثل قول أبي خراش الهذلي:
رَفَونِي، وقالوا: يا خُويلدُ لا تُرَعْ... فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ: هُمُ هُمُ (٤)
وقول أبي كبير الهذلي:
وصحوتُ عن ذكرِ الغواني وانتهى عُمري، وأَنكرتُ الغداةَ تَقَتُّلي (٥)
وربَّما اتُّهِم النحويونَ بوضع بعض الشواهد الشعرية تأييدًا لما يذهبون إليه، كما في الشاهد الذي أورده سيبويه، للاستشهاد على أن وزن «فَعِلَ» يعمل عَمَلَ فعله. يقول ابن عطية: «واختُلِفَ في عَمَلِ «فَعِلَ»، فقال سيبويه: إنه عامل، وأنشد:
_________
(١) انظر: ديوانه ١٥٤، ديوان الهذليين ١/ ٨، انظر: تفسير الطبري (هجر) ١٢/ ٤٧٢.
(٢) انظر: الكشاف ٢/ ٤١٠.
(٣) هود ٧٠.
(٤) انظر: ديوان الهذليين ٢/ ١٤٤.
(٥) انظر: ديوان الهذليين ٢/ ٨٩.


الصفحة التالية
Icon