إن (أَسَرَّ) من أفعال الأَضْداد؛ لأن في اللغة العَرَبية أفعالًا تَدُلُّ على المعنى وضِدِّه، تُسمَّى الأضداد.
وقد ألَّفَ عُلَماء اللغة العربية بذلك كُتُبًا سمَّوْها (الأضداد في اللغة)، يَأتون بالكلِمة ويُبيِّنون مَعناها الذي يَتَضمَّن الشيء وضِدَّه، ومنه قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير: ١٧] قال بَعْضهم: مَعناها: (أَدبَرَ)، وقال آخَرون: مَعناه: (أَقبَل)، ومعلومٌ أن (أَدبَرَ) و (أَقبَلَ) ضِدَّانِ.
وأيُّهما أقرَبُ إلى الصواب في هذه الآيةِ: (أَسَرَّ) بمعنى: (أَخفَى) أو (أَسَرَّ) بمَعنى: (أَظهَرَ)؟
الجوابُ: بمَعنَى: (أَخفَى)، ولا يُمكِن أن نَجمَع بين القَوْلين إلَّا إذا نزَّلْناهما على اختِلاف حالين، أو على اختِلاف شَخْصين، على اختِلاف حالين: بمعنى أنهم أحيانًا يُخفُون وأحيانًا يُعلِنون، أو باختِلاف شَخْصين: بمعنى أن بعضَهم يُسِرُّ وبعضهم يُعلِن، أمَّا أن نَحمِلها على المَعنيَيْن في آنٍ واحِد من شخص واحِد فهذا لا يُمكِن؛ للتَّضادِّ -جمع بين ضِدَّيْن- وهذا مُستَحيل؛ وللنَّظَر أيُّهما أَوْلى بالصَّواب:
قوله تعالى: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ يَعنِي: أَخفَوْها حين رأَوُا العذاب؛ وأَخْفَوْها حين رأَوُا العذاب لأَجْل أَنْ لا يُعاب عليهم فيَظهَر للناس أنهم نادِمون على ما صنَعوا وهذا دائِمًا يَقَع حتى في أمور الدُّنيا إذا عرَف الإنسان أنه أَخطَأ في تَصرُّف ما: تَجِده يُخفِي خَطَأه ولا يُظهِر أنه نادِم، ولا أنه مُكتَرِث بهذا الشيءِ، قال الشاعر:

وَتجُلُّدِي لِلشَّامِتِينَ أُرِيهِمُ أَنِّي لِرَيْبِ الدَّهْرِ لَا أَتضَعْضَعُ (١)
(١) البيت لأبي ذؤيب الهذلي خويلد بن خالد، انظر: ديوان الهذليين (١/ ٣)، والمفضليات للمفضل الضبي (ص: ٤٢٢).


الصفحة التالية
Icon