ومَنِ ادَّعى عِلْم غَيبٍ واقِعٍ فهذا الغَيْبُ ليس غَيْبًا مُطلَقًا، ولكنه غَيْب نِسْبيٌّ؛ يَعلَمه مَن شاهَدَه، ولا يَعلَمه مَن لم يُشاهِدْه؛ فغَيْب الله تعالى في قوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ يَشمَل الأَمْرين أو يَشمَل المُستَقبَل فقط؟
الجوابُ: يَشمَل الأَمْرين؛ لأنَّ كُلَّ ما حدَث ولو في أزمانٍ بَعيدة جِدًّا فالله عالمٌ به، وكل ما سيَحدُث فالله عالمٌ به، فالغَيْب المُطلَق للواقِع والمُنتَظَر هذا من خصائِصِ عِلْم الله تعالى، والغَيْب المُقيَّد بالواقِع هذا ليس من خَصائِص عِلْم الله تعالى، بل هو حاصِلٌ لكل مَن شاهَدَه.
قول المُفَسِّر رَحِمَهُ اللهُ: ﴿لَا يَعْزُبُ﴾ يَغِيبُ ﴿عَنْهُ﴾]، يَعنِي عن الله [﴿مِثْقَال﴾ وَزْنُ ﴿ذَرَّةٍ﴾ أَصْغَرِ نَمْلَةٍ ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾].
وقوله تعالى ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ إلى آخِره؛ صِفة من الصِّفات السَّلْبية، و ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ من الصِّفات الثُّبوتية، فالصِّفات الثُّبوتية -كما تَقرَّر- كلُّها صِفاتُ كَمالٍ، والصِّفات السَّلْبية تَأكيد لصِفاتِ الكَمال؛ لأنها تَتضمَّن صِفة الكَمال المَنفيَّ عنها هذا العَيْبُ، فالصِّفات السَّلْبية يَعنِي النَّفي تَأكيدٌ للكَمال؛ لأنها تَتضمَّن ثُبوت الصِّفات الكَمالية الخالية من هذه الصِّفةِ التي تُعتَبر صِفةَ نَقْص.
ولهذا ما من نَفْيٍ في صِفات الله إلَّا وهو مُتضمِّن لإثبات كَمال ضِدِّه، فمَثَلًا: إذا قلنا: لا يَعزُب عن عِلْم الله شَيءٌ فذلك لكَمال عِلْمه، وإذا قُلْنا: إنه خلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ في سِتَّة أيام ولم يَمَسَّه لُغُوب فذلك لكَمال قُدْرته، وعلى هذا فقِسْ.
فكُلُّ صِفات النَّفيِ المُضافة إلى الله يُراد بها إثباتُ كَمال الضِّدِّ؛ كأنه وصَفَ الله تعالى بالكَمال الخالي عن هذا النَّقْصِ.