ولو أن إِنْسانًا قدِمَ لِيُوَزِّعَ جوائزَ على آلِ فلانٍ، فهل أُبَشِّرُكَ بقُدُومِهِ؟ ! ولو حدثَ هذا لكان سَفَهًا.
إذن لم يُبَشِّرْهُمْ عِيسى إلَّا لأنه رَسُولٌ إليهم، ولهذا قال: ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ [الصف: ٦]، يَعْنِي: عَيّنه بالإسمِ حتى لا يَبْقَى فيه إشكالٌ فيما بعدُ، ولكن - والعياذُ باللهِ - هم كَفَرُوا، وكفروا بالنَّبيّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فيكونونَ كافرينَ بعِيسى بنِ مَرْيَمَ.
وكذلكَ الْيَهُودُ كُفْرُهم بمُحمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كفرٌ بِمُوسى وبالتَّوراة الَّتي وُجِد فيها رَسُولُ الله مكتوبًا عندَهم: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [البقرة: ١٤٦]، مثلما أنَّ الإِنْسان يَعْرِف ابنَه فهم يَعرِفونَ محُمَّدًا - ﷺ - بوصفه، ولكنه الإستكبارُ والعياذُ باللهِ.
فإن سألَ سائلٌ: إن كانَ نوحٌ نُبِّئَ ولم يُرْسَلْ برسالةٍ، فكيف اتَّبَعَهُ أولادُه؟
فالجَوابُ: رَأَوْا ما يفعل ففعلوا؛ لأنَّه عادةً أنَّ الإِنْسانَ يُقَلِّدُ مَن هو أكبرُ منه، وليسَ هناك موانِعُ وفوارقُ تَمْنَعُهُم وتَصرِفُهُمْ عن تقليدِهِ.
فإن كانَ في عِبادته أشياءُ قَوْلِيَّة تَحتاج إلى تفسير، فإِنَّه سَيُفَهِّمُهُمْ مِن فِعْلِهِ ومن قولِهِ، لكن هذا لا يَعْنِي أنه صارَ رسولًا؛ لأن المرسَلَ هو المبلِّغُ المكلَّفُ، أمَّا هذا فليسَ بمكلَّفٍ، ولهذا نقول مثلًا: إن الجنَّ لم يَنتفعوا برسالةِ نوحٍ؛ إذِ المعروفُ عند أهلِ العِلْمِ أنه لم يُرسَلْ إليهم، وأنه ما أُرْسِلَ إلى أحدٍ من الجنِّ إلا محُمَّدٌ - ﷺ -، مع أنَّهم يقولونَ: ﴿يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ [الأحقاف: ٣٠]، وهذا يدلُّ على أنَّهم كَانوا مُنْتَفِعِينَ بكتابِ موسى.