وأتت (مِنْ) هنا في سياق النفيِ داخلة على نكرة؛ للتنصيصِ على الْعُمومِ، يَعْنِي: من أجرٍ قليلٍ أو كثيرٍ، والمُرادُ بالأجرِ هنا أجرُ الدنيا، وهو المعاوَضَةُ، يَعْنِي: ما قلتُ لكم: أَعْطوني أَجْرًا، ولو أَمَرْتُكُمْ بهذا لقِيلَ: هذا رجلٌ يريدُ أنْ يَسْتَجْدِيَ بما يَدَّعِيهِ منَ الرِّسالَةِ.
وهناك أُناسٌ يَتَكَلَّمُونَ في المساجدِ، وَيعِظُون النَّاسَ ويُوَجِّهُونَهُم؛ فإذا انْتَهَوْا مَدُّوا أَيْدِيَهُم يسألونَ النَّاسَ، وهؤلاء حالهُم خلافُ حالِ الرُّسُلِ، ولهذا تجدونَ النَّاسَ لو كَانوا قد تَأَثَّروا بِمَوْعِظَتِهِمُ الأُولى، فإذْا مَدُّوا أَيْدِيَهم بعدَ أنْ وُعِظوا ذهبَ كلُّ ما كَان في نُفُوسهم من هذا التأثُّر؛ لأنَّ الإِنْسانَ إذا طلبَ الدنيا بما يُرَاد به الآخرةُ، فسَدَ أَمْرُه، ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾ [هود: ١٥ - ١٦].
ويُسْتَفَادُ من هذا: أنَّ مَن طَلَبَ العِلْمَ الَّذي جاءتْ به الرُّسُلُ لِيَنَالَ به أمرًا منَ الدُّنيا، فليسَ طريقُه طريقَ الرُّسُل؛ لأن الرُّسُلَ إنَّما يَأْمُرُونَ النَّاسَ ويَنْهَوْنَهُم؛ لِمَا يرجونه منْ ثوابِ اللهِ لا لما ينالونه من الأجرِ، ففي هذا دليلٌ على وُجُوبِ تصليحِ النيَّة لمِنْ قامَ مَقَامَ الرُّسُلِ بالدعوةِ إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
يقول المُفَسِّر: [﴿إِنْ﴾ ما ﴿أَجْرِيَ﴾]، ففَسَّرَ (إنْ) بـ (ما)، فهي نافيةٌ، وفسَّرَ ﴿أَجْرِيَ﴾ بقَوْلِهِ: [ثَوَابِي]، فالمَعْنى: ليسَ أَجْرِي عليكم ولا على غَيْرِكُم منَ الخلقِ، وإنَّما هو: ﴿عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وهو اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي هذا إخلاصُ المرءِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ وأنه لا يُرِيدُ ثوابًا منْ أحدٍ ولا مَنالًا إلَّا منَ اللهِ، وفيه أيضًا دليلٌ على أنَّ عملَ الإِنْسانِ لِيَنَالَ الثَّوابَ ليسَ أَمرًا مَمْقُوتًا، بل هو طريقُ الرُّسُلِ - عليهم الصلاةُ والسلامُ - وأَتْبَاعهم.