قال ﴿إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ﴾ يَعْنِي: نَسَبُوني إلى الكَذِب، وقالُوا: كذّبه، وكذَبه، والفرق بينهما أن (كذَبه) أخبره بخلافِ الواقعِ، و (كذّبه) أنه لم يُصَدِّقْ ما جاء به.
ثالثًا: الفاءُ للسببيَّة في قَوْلهِ: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ﴾، وهذا القولُ ظاهرُهُ الأمرُ، لكنَّه في جانبٍ له يُسمَّى دُعاءً؛ إذِ الأمرُ لا يكونُ إلَّا ممَّن يَستعلي على المأمورِ، وليس الطالبُ بمُسْتَعْلٍ على مطلوبِه، ثم إن الله جَلَّ وَعَلَا فوقَ كلِّ شيْءٍ.
وقَوْلهُ: ﴿فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا﴾ أي: احْكُمْ، وسُمِّيَ الحُكْمُ فَتحًا؛ لأنه يَنْفَتِحُ به الأمرُ ويَتَبَيَّن، فينفصِل هذا عن هذا، وهذا الفتحُ بأنْ يُنْجِيَه ومَن معَه من المُؤمِنينَ، ويُهْلِكهم، أمَّا نجاتُه ومَن معه من المُؤمِنينَ فمصرَّح بها، وأمّا إهلاكُهم فلا نجاةَ إلَّا مِن هَلَكة، هذا هو الفتحُ الَّذي سأله نوحٌ أن يُهْلِكَ الله تَعالَى قومَه وأن يُنْجِيَه هو ومن معَه منَ المُؤمِنينَ.
وقد قال تَعالَى عنه في سُورَة نوح: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧].
وقد يقول قائلٌ: هل يُخْبِرُ نوحٌ اللهَ تَعالَى بالواقِع؟ أليس الله تَعالَى عالمًا به؟
فالجَوابُ: بلى، هو عالمٌ به، لكن قَصْده عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بيانُ الحاملِ له على هذا الدُّعاءِ أنه يَعتقِد أنه إذا أبقاهم لا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، وإلَّا فاللهُ تَعالَى عليمٌ به، فيكون هذا كالإعتذارِ عن هذا السُّؤالِ العامّ: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾.
قَوْلهُ: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه المَعِيَّةُ لَيْسَتْ مَعِيَّةَ اختلاطٍ كما هو معروفٌ، بل هي مَعِيَّةُ اشتراكٍ في عملٍ وعقيدةٍ؛ فإنَّ الَّذي معَ نوحٍ من المُؤمِنينَ