ثم إن كلمة: ﴿حَمَلْنَا﴾ يُحتاج إلى تَأْوِيلها إلى: سَنَحْمِل، وحينئذٍ إذا كَانتْ سَنَحْمِلُ لا تَصيرُ آيةً لهم إلا باعتبارها وعدًا منَ اللهِ ليس مشاهدًا، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يخاطب هؤُلاءِ المعاندين بما يقتضيه وعده فقطْ، وإنَّما يُخاطِبُهُم بآياتٍ يُشاهِدونها، أو تكون معلومةً لديهم، بحيثُ لا يُتمكَّن مِنَ الإنكارِ.
فالقولُ بأنَّ الفُلْكَ المشحونَ هنا يُراد به الطائراتُ وغيره ليسَ له وجهٌ، والصَّوابُ أن نقول: ﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ [يس: ٤١]، يَعْنِي الذُّرِّيَّة الَّتي كَانوا منها، فالإضافةُ - كما يقولُ النحْويُّون - لِأَدْنَى مُلابسةٍ، فآباؤهم بالنِّسبةِ لنوحٍ ذُرِّيَّة، وأمَّا عادةُ الإطلاقِ أنَّ الذريَّة تأتي بالمَعْنى الحقيقيِّ للآباءِ.
قال المُفسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ: [﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ﴾ أي: بعد إِنجائِهِم ﴿الْبَاقِينَ﴾ من قومه]، والَّذينَ هم نَجَوْا كما قال الله تَعالَى في سُورَةِ هودٍ: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠]، وابنُه - أحد أبنائه - ما نَجَا؛ لأنه كَان كافرًا، وهو قد سألَ: ﴿وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: ١١٨].
وفي الآيَات الأُخْرَى أنَّ اللهَ تعالَى قال له: ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾ ثم استثنى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾ [هود: ٤٠]، ولكنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَعَا الله تَعالَى مُشْفِقًا وراجيًا رحمتَه: ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ [هود: ٤٥]، فقال اللهُ تَعالَى له: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ [هود: ٤٦]، والجَوابُ هنا فيه إشكالٌ، إنَّما قال: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾؛ لأنه كَان مُقْتَضَى ما سبق أن يقولَ: إنه ليس من أهلِكَ؛ لأنّه استثنى قبلًا: ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾.
لكن لو قيل كذلك - لأنه سبق عليه القول - لقالُوا: ولماذا سبقَ عليه القولُ؟


الصفحة التالية
Icon