بالفعلِ أو لا يَعِظهم، كلّ الأمرِ عنْدَهُم سواءٌ، وإنَّما قالُوا ذلكَ لأنَّ الإِنْسانَ قد لا يَكْتَرِث بالواعظِ لكونِه غيرَ أهلِه، وقد لا يَكترث به عِنادًا، وهؤُلاءِ لما قالُوا: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ دلّ ذلك على أنَّهم مُعانِدُون، حتى وإنْ كان من غيرِ أهلِ الوعظِ، أو وعظت وأنتَ مِن أهلِ الوعظِ، وفي هذا من بلاغةِ القُرآنِ ما هو ظاهرٌ؛ لأنَّهم قالُوا: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ﴾ أم لم تعظْ، لكن ربَّما يقولون: إنه قد يَعِظ وليسَ أهلًا للوعظِ، ولكنهم قالُوا: ﴿أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ﴾ يَعْنِي: لم تكن ممَّن يَسْتَحِقُّون أنْ يُوصَفوا بهذا الوصفِ.
فيؤخَذ من هذا أنه حُذِف من كلّ واحدةٍ ما يُقابلها؛ اختصارًا للوضوحِ، فيصير التَّقدير على هذا: (أوعظتَ أم لم تَعِظْ، أو أكنتَ واعظًا تَسْتَحِقّ أنْ يَنْصَرِف النَّاس لك، ويأخذوا منك، أم لم تكنْ واعظًا)، وهذه غاية ما يكون من بلاغةِ القُرآنِ، وبالنِّسبة لهم غاية ما يكون منْ الإستكبارِ، وعدم الإكتراثِ بِوَعْظِهِمْ.
قوله تعالى: ﴿إِنْ﴾ فسرها المفسِّر بـ[ما]، يَعْنِي نافية، قال المُفسِّر رَحِمَهُ اللهُ: [﴿هَذَا﴾ الَّذِي خَوَّفْتنَا بِهِ ﴿إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ﴾ اخْتِلَاقُهمْ وَكَذِبُهمْ]، يَعْنِي: إنَّك أنتَ يا هودُ ما جِئتنا إلَّا بأمرٍ اختلقه مَن قَبْلَكَ، فكذَّبوه هو ومَن قبله أيضًا، وقالُوا: هذا خَلْق الأوَّلين، خَلْقُهُم أي: اخْتِلَاقُهم وافْتِرَاؤُهم وكَذِبُهم، كما قال الله تَعالَى عن إبراهيمَ: ﴿وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾ [العنكبوت: ١٧]، يَعْنِي: تَخْتَلِقُونه وتُزَوِّرُونَه.
قال: [وفي قِراءَةٍ بضمّ الخاءِ واللّام: ﴿خُلُقُ﴾]، وهذه القِراءَةُ سَبْعِيَّة بناءً على قاعدةِ المُفَسِّر، فإذا قال: "قُرِئَ" فهي ليستْ سبعيَّة، وإذا قال: "فيه قِراءَة" فيريد أنها سبعيَّة، قال: [أَيْ مَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ إنْكَارٍ لِلْبَعْثِ إلَّا خُلُق الْأَوَّلِينَ، أَيْ طَبِيعتهم وَعَادَتهم].