في كتابه حكاية عن كتاب سليمان عليه السلام أنها كانت في أوله. ثم أثبتها الصحابة في المصحف خطًّا في أوّل كل سورة سوى براءة، فاختلف العلماء هل كان ذلك لأنها أنزلت حيث كتبت، أو فعل ذلك للتبرك كما في غيره، ولم يكتف بها في أول الفاتحة، بل أعطيت كل سورة حكم الاستقلال إرشادا لمن أراد افتتاح أيّ سورة منها إلى البسملة في أولها، ولما فقد هذا المعنى حين التلاوة بوصل السورة اختلف القراء فيه: فمنهم من اتبع المصحف فبسمل مستمرا على ذلك، إذ القراءة في اتباع الرسم شأن يُخَالَفُ لأجله قياس اللغة، على ما قد عرف في علم القراءة، فما الظن بهذا؟ وقد كان تقرر عندهم أن المصحف لم تكتبه الصحابة إلاّ ليرجع إليه فيما كانوا اختلفوا فيه، ومنهم من فهم المعنى فلم يبسمل إلاّ في أوّل سورة يبتدئ بها (١)، وقد صحّ أن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أنزلت الكوثر وتلاها على الناس بسمل في أوّلها (٢)، وكذا لما قرأ سورة حم السجدة على عتبة بن ربيعة (٣)، ولما تلا سورة المجادلة على امرأة (٤) أوس بن الصامت (٥)، ولما قرأ سورة الروم على المشركين (٦)، ولإيلاف قريش -أخرج البيهقي حديثهما في " الخلافيات " (٧) - ولما قرأ سورة الحجر أخرجه ابن أبي هاشم (٨) بسنده (٩).
وبسمل بين السورتين بسنة | رجال نموها درية وتحملا |
(٢) رواه مسلم ١/ ٣٠٠ ح ٥٤ وأبو داود ١/ ٥٠٧ ح ٧٨٠ والنسائي ٢/ ١٣٤ ح ٩٠٤ من حديث أنس.
(٣) رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ١٤/ ٢٩٥ وعنه عبد بن حميد في مسنده (المنتخب ٣/ ٦٢) وأبو يعلى في مسنده ٣/ ٣٤٩ من طريق علي بن مسهر، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال. فذكره.
ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة ١/ ٢٩٩ من طريق منجاب بن الحارث، عن علي بن مسهر، ورواه البيهقي في دلائل النبوة ٢/ ٢٠٢ وابن عساكر في تاريخ دمشق ٣٨/ ٢٤٢ من طريق يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح، ورواه الحاكم في المستدرك ٢/ ٢٥٣ من طريق جعفر بن العون، عن الأجلح. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد ٦/ ١٧ فيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر: صدوق شيعي. التقريب ١٢٠ قلت: الحديث حسن إذن.
(٤) هي: خولة بنت ثعلبة، ويقال: خويلة، وخولة أكثر، وقيل: خولة بنت حكيم، وقيل: خولة بنت مالك بن ثعلبة، وقيل: جميلة، وقيل: بل هي خولة بنت دليج، ولا يثبت شيء من ذلك، والله أعلم، والذي قدمنا أثبت وأصح إن شاء الله. الاستيعاب ٤/ ١٨٣٠ والإصابة ٧/ ٦١٨.
(٥) هو أوس بن الصامت بن قيس الأنصاري، أخو عبادة بن الصامت، شهد بدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله - ﷺ -، وهو الذي ظاهر من امرأته فوطئها قبل أن يكفر، مات في أيام عثمان، وله خمس وثمانون سنة. الاستيعاب ١/ ١١٨ والإصابة ١/ ١٥٦. وقصة ظهاره من امرأته رواها أحمد ٤٥/ ٣٠٠ وأبو داود ٣/ ٨٣ ح ٢٢٠٩ وابن حبان (الإحسان ١٠/ ١٠٧) والطبري في تفسير الطبري ٢٨/ ٥ من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام، عن خولة. وليس فيها البسملة، ورواها ابن أبي حاتم -وفيها البسملة- في تفسير القرآن العظيم (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٨/ ٣٨) والبيهقي في السنن الكبرى ٧/ ٣٨٥ عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية مرسلاً. وزاد السيوطي في الدر المنثور ٧/ ٧٧ نسبته إلى عبد بن حميد -ولم أرها في المسند المنتخب- وابن مردويه.
(٦) رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد ١/ ٤٠٤ ومن طريقه البيهقي في الخلافيات ل ٤٤ وأبو القاسم الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة ١/ ٢٩١ من طريق محمد بن يحيى، عن سريج بن النعمان، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم مرفوعاً. وفيه البسملة.
ورواه البخاري في كتاب التاريخ الكبير ٨/ ١٣٩ من طريق إسماعيل بن أبي أويس، وأبو الحسن بن قانع في معجم الصحابة ٣/ ١٧٢ والطحاوي في شرح مشكل الآثار ٧/ ٤٤٢ من طريق محمد بن سليمان لوين، والطبراني في المعجم الأوسط ٧/ ٢٠٠ من طريق ابن جريج، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنة ١/ ١٤٣ ومن طريقه البيهقي في كتاب الأسماء والصفات ١/ ٥٨٥ وفي الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد ١٠/ ١٠٨ من طريق أبي معمر الهذلي، عن سريج بن النعمان، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ٥/ ٢٧٠٤ من طريق محمد بن العباس المؤدب، عن سريج بن النعمان كلهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه به، وليس في هذه الطرق البسملة، وهي المحفوظة.
(٧) رواه الحاكم في المستدرك ٢/ ٥٣٦ وعنه البيهقي في الخلافيات ل ٤٤ من طريق يعقوب بن محمد الزهري والبسملة في روايته والبخاري في التاريخ الكبير ١/ ٣٢١ والطبراني في المعجم الكبير ٢٤/ ٤٠٩ وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال ١/ ٢٦٠ من طريق أبي مصعب الزهري، كلاهما (يعقوب بن محمد، وأبو مصعب الزهري) عن إبراهيم بن محمد، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبيه، عن جدته أم هانئ قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: يعقوب ضعيف، وإبراهيم صاحب مناكير، هذا أنكرها. تلخيص المستدرك.
وخالفه سليمان بن بلال فروى البخاري في التاريخ الكبير من طريق سليمان بن بلال، عن عثمان بن عبد الله بن أبي عتيق، عن ابن جعدة المخزومي، عن ابن شهاب عن النبي - ﷺ - نحوه. قال أبو عبد الله: هذا بإرساله أشبه.
قال الحافظ العراقي في محجة القرب إلى محبة العرب ٢٣٣: هذا حديث حسن، ورجاله كلهم ثقات معروفون إلا عمرو بن جعدة بن هبيرة فلم أجد فيه تعديلاً ولا جرحاً، وهو ابن ابن أخت علي بن أبي طالب، وهو أخو يحيى بن جعدة بن هبيرة أحد الثقات.
وهنا وقفات:
الأولى: إن رواية البسملة في الحديث ضعيفة، تفرد بها يعقوب بن محمد الزهري، قال الحافظ ابن حجر عنه: صدوق كثير الوهم والرواية عن الضعفاء. التقريب ١٠٩٠.
الثانية: إن إبراهيم بن محمد اختلف فيه، فقال عنه ابن عدي في الكامل: مدني، روى عنه عمرو بن أبي سلمة وغيره مناكير، وقال أيضاً: وأحاديثه صالحة محتملة، ولعله أتي ممن قد روى عنه. وقال عنه الذهبي: ذو مناكير. الميزان ١/ ٥٦ وسبق قوله فيه في تلخيص المستدرك. ثم إنه خالف سليمان بن بلال الثقة، فروايته حينئذٍ منكرة، ورواية سليمان معروفة، ولهذا رجح البخاري رواية سليمان فقال: هذا بإرساله أشبه.
الثالثة: قول الحافظ العراقي: هذا حديث حسن ورجاله كلهم ثقات معروفون. فيه نظر يعرف مما سبق، لكن يشهد لمرسل ابن شهاب هذا حديث الزبير الذي رواه الطبراني في المعجم الأوسط ٩/ ٧٦ من طريق عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن الزبير نحوه. قال الحافظ العراقي فيه: هذا حديث يصلح أن يخرج للاعتبار والاستشهاد، فإن عبد الله بن مصعب بن ثابت ذكره ابن حبان في الثقات، وضعفه ابن معين.
قلت: وخلاصة القول أن رواية البسملة في حديث أم هانئ ضعيفة، وباقي الحديث حسن لغيره. (نواهد الأبكار وشوارد الأفكار: ١/ ٥٦).
(٨) هو عبد الواحد بن عمر بن محمد بن أبي هاشم أبو طاهر البغدادي المقرئ، انتهى إليه الحذق بأداء القرآن، قرأ بالروايات على ابن مجاهد، له كتاب البيان، وكتاب الفصل بين أبي عمرو والكسائي، ورسالة في الجهر بالبسملة، توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. معرفة القراء الكبار ٢/ ٦٠٣ وغاية النهاية ١/ ٤٧٥ وإيضاح المكنون ٥/ ٥٦٢.
(٩) رواه الطبري في تفسير الطبري ١٤/ ٢ من طريق علي بن سعيد بن مسروق الكندي، وأبو بكر ابن أبي عاصم في السنة ١/ ٥٨٢ والطبراني في المعجم الكبير (تفسير القرآن العظيم لابن كثير ٤/ ٥٢٥) والحاكم في المستدرك ٢/ ٢٤٢ وعنه البيهقي في كتاب البعث والنشور القسم الثاني ١/ ٢٠٧ من طريق أبي الشعثاء علي بن الحسن كلاهما عن خالد بن نافع الأشعري، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى مرفوعاً، وليس فيه البسملة قال الحافظ ابن كثير: ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به، وزاد فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
قال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري، قال أبو داود: متروك. مجمع الزوائد ٧/ ١٣١.
قال الذهبي: وهذا تجاوز في الحد، فإن الرجل قد حدث عنه أحمد بن حنبل، ومسدد، فلا يستحق الترك، ميزان الاعتدال ١/ ٦٤٤.