التعريف معيب، كما يلاحظ الباحث أن هذا التعريف خلا من وصف القرآن بالمعجز؛ فهل الإعجاز صفة مختصة بكلام الله؟ وهل في الحديث القدسي أو النبوي شيء من الإعجاز فتدخل في التعريف؟ على كلا الأمرين سيخرج غير القرآن من التعريف بقولهم: "المتعبد بتلاوته" أي: بإقامة حروفه وألفاظه، وبأنه لا يجزئ في الصلاة غيره.
وعُرِّف كذلك بأنه: "كلام الله تعالى المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- للبيان، والإعجاز، المجموع بين دفتي المصحف، المتعبد بتلاوته، المنقول بالتواتر" (١).
نستنتج مما سبق أن كل التعريفات تدور في الجملة حول معنى واحد غير أن في بعضها زيادة قيود، وإسهاب، والأصل في الحدود أن تكون جامعة مانعة، وعليه فإن الباحث يرى أن التعريف المختار هو: أن القرآن كلام الله المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- لفظاً، للبيان، والتحدي، والإعجاز، المتعبد بتلاوته، وبأحكامه، المنقول بالتواتر.
شرح محترزات وقيود التعريف:
قوله: كلام الله: الكلام صفة من صفات الله أثبتها سبحانه لنفسه، وأثبتها له رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقولنا كلام الله الكلام جنس في التعريف يشمل كل كلام وإضافته إلى (الله) يخرج كلام غيره من الإنس والجن والملائكة، "فقد كلم سبحانه عبده ورسوله موسى بلا واسطة، بل أسمعه كلامه الذي هو صفته اللائقة بذاته كما شاء وعلى ما أراد، قال الله عز وجل: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ] ﴿البقرة: ٢٥٣﴾ [وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا] ﴿النساء: ١٦٤﴾، فأكده بالمصدر مبالغة في البيان والتوضيح" (٢).
وقوله: "المنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-": خرج بقوله المنزل: كلام الله الذي استأثر به نفسه سبحانه: قال تعالى: [قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا] ﴿الكهف: ١٠٩﴾، وخرج بقوله على محمد -صلى الله عليه وسلم- الكتب السماوية السابقة لنزول القرآن كالتوراة والانجيل وغيرها، قال تعالى: [نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ] ﴿الشعراء: ١٩٣ - ١٩٤﴾.
وقوله: "لفظاً": قيدٌ خرج به الحديث القدسي والنبوي، إذ لم ينزل كل واحد منهما لفظاً، وإنما نزل الحديث النبوي معنى على الصحيح، وفي الحديث القدسي خلاف مشهور.
وقوله: "للبيان": أي: للبيان التشريعي وغيره، وهو من مهام محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: [بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] ﴿النحل: ٤٤﴾.
وقوله: "والتحدي": "إن القرآن قد تحدى الإنس والجن جميعاً، مكيهم، ومدنيهم، وعربيهم، وعجميهم، أن يأتوا ولو بمثل أقصر سورة من سور القرآن فعجزوا أجمعين " (٣)، قال تعالى:
(٢) معارج القبول بشرح سلم الوصول حافظ بن أحمد بن علي الحكمي ١/ ٢٤٧، تحقيق: عمر بن محمود أبو عمر، دار ابن القيم - الدمام، ط/الأولى ١٤١٠ هـ - ١٩٩٠ م.
(٣) مناهل العرفان في علوم القرآن ١/ ٢١٨.