وعلى هذا قوله تعالى: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ﴾ وأيضاً، ففي ذكر المفعول إشارة إلى إثبات الحكم المذكور ونفيه عن غيره تقول: إليك أفزع تنبيهاً أني لا أفزع إلا إليك.
وإذا قال: أفزع إليك، فليس فيه المعنى وعلى هذا فسر ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما فقال: معناه: لا نوجد غيرك وقال بعضهم: إنما نبه تعالى بتقديم ذكر أن تكون نظر العباد من المعبود إلى عبادتهم له لا من العبادة إلى المعبود، وعلى ذلك فضل ما حكي الله عن نبينا - عليه السلام - إذ قال: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ فنظر من الله تعالى إلى نفسه على ما حكى عن موسى عليه السلام حين قال: ﴿إِنَّ مَعِيَ رَبِّي﴾ فقدم ذكر نفسه، ونظر منها إلى ربه" (١).
والعبادة لغة: "التذلل.. وبعير معبد: مذلل. وطريق معبد: مسلوك مذلل (٢).
قال الزجاج: " معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال هذا طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء، وبعير معبد، إذا كان مطليا بالقطران" (٣).
قال ابن فارس: العين والباء والدال أصلان صحيحان. كأنهما متضادان، والأول من ذينك الأصلين يدل على لين وذل. والآخر على شدة وغلظ. فالأول: العبد المملوك.. والمعبد: الذلول.. والطريق المعبد المسلوك المذلل، والأصل الآخر: العبدة وهي القوة والصلاة يقال: هذا ثواب له عبدة، إذا كان صفيقاً قوياً (٤).
قال الطبري: " وأنها تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة: معبَّدًا. ومن ذلك قولَ طَرَفَة بن العَبْد (٥):

تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت وَظِيفًا وظيفًا فوق مَوْرٍ مُعَبَّدِ
يعني بالموْر: الطريق. وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء" (٦).
والعبادة اصطلاحاً هو: " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" (٧) (٨).
(١) تفسير الرابغ الأصفهاني: ١/ ٥٩.
(٢) لسان العرب، مادة عبد ٣/ ٢٧٤.
(٣) معاني القرآن: ١/ ٤٨.
(٤) معجم مقاييس اللغة ٤/ ٢٠٥، ٢٠٦ باختصار.
(٥) ديوان الستة الجاهليين: ٣١. يصف ناقته. تباري: تجاريها وتسابقها. والعتاق جمع عتيق: وهو الكريم المعرق في كرم الأصل. وناجيات: مسرعات في السير، من النجاء، وهو سرعة السير. والوظيف: من رسغي البعير إلى ركبتيه في يديه، وأما في رجليه فمن رسغيه إلى عرقوبيه. وعنى بالوظيف هنا: الخف.
(٦) تفسير الطبري: ١/ ١٦١.
(٧) العبودية، ص ٣١.
(٨) فالمراد بـ"ما يحبه الله ويرضاه": كل أمر يجري وفق شرع الله سبحانه وتعالى من الواجبات والمندوبات والمباحات. وكذلك ترك المنهيات، فإن الله يحب أن نترك ما نهانا عنه، من الأقوال والأفعال: (إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال) فمن ترك ذلك فقد أرضى ربه. وقال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ [الإسراء: ٣١]، وقال: ﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [الإسراء: ٣٢]، وقال: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: ٣٦]، وقال: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ [الإسراء: ٣٧٧]، ترك كل ذلك يرضي الله سبحانه وتعالى ويحب الله تاركيه ما داموا قد تركوها من أجله.
والمراد بقوله: "الباطنة والظاهرة" فهناك أعمال للقلوب وهي باطنة لا يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد نحس بآثارها على المتصف بها: فمما ورد في ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: ٣٥٥).
إن الاستسلام لأمر الله، والتصديق الجازم بما أنزله على رسوله، والإخبات لأمر الله والاستمرار عليه والخشوع بتدبر أوامر الله ونواهيه والتذلل لها، وصدق الحال والإخلاص في الأعمال.... كل هذه أعمال باطنة وصفات قلبية لا نحس إلا بآثارها على المتصف بها.
أما الأقوال والأعمال الظاهرة فكل ما نقوله ضمن حدود الشرع وأحكامه وما نعمله من أعمال وفق أحكام الشرع وليست متناقضة معها فهو داخل في العبادة. فالأب عندما يؤدب أولاده قال قولاً ظاهراً فهو في عبادة، والمدرس إذا ألقى درساً في أي موضوع تجريبي تطبيقي- مسألة في الرياضيات، أو معادلة كيماوية، أو قانوناً طبيعياً- أو في علم نظري: في التربية أو مهارة أدبية في التعبير فكأنما قال حكماً شرعياً في الفقه أو الحديث النبوي أو التفسير، فهو مأجور على كل ذلك لأنه أوصل منفعة لطلابه يستفيدون منها في حياتهم العلمية والعملية.
وكذلك الأعمال التي يقوم بها الأفراد هي عبادة: عيادة المريض عبادة، صلة الرحم عبادة، وكما تقدم إماطة الأذى عن الطريق عبادة، إصلاح ذات البين عبادة، إكرام الضيف عبادة، إعانة الأخرق عبادة،.... وهكذا.
يقول محمد قطب "وهكذا يقضون الحياة كلها في عبادة... عبادة تشمل نشاط الروح كله، ونشاط العقل كله، ونشاط الجسد كله، ما دام هذا كله متوجهاً به إلى الله، وملتزماً فيه بما أنزل الله، وهذا هو المفهوم الصحيح للعبادة كما أنزله الله.. المفهوم الشامل الواسع العميق ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ﴾ [الأنعام: ١٦٢ - ١٦٣]. [مفاهيم ينبغي أن تصحح، ص ٢٠٥، طبعة دار الشروق].
ولقد ضمر معنى العبادة في نفوس بعض المسلمين وعقولهم بحيث حصروها في الشعائر التعبدية: الصلاة، الزكاة الصوم، الحج، وربما أضاف بعضهم إليها الذكر، والجهاد ولكن دلالة العبادة أوسع بكثير من ذلك، فإنها تشمل الحياة كلها. وهذا ما تدل عليه نصوص الكتاب والسنة وفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أطلق القرآن الكريم مصطلح (العمل الصالح) على كل ما يقوم به الإنسان من جهد بشري يبتغي به وجه الله تعالى، أو يقوم به نتيجة تكليف من الله تعالى، أو ما فيه منفعة لنفسه، ولمن حوله أو للمخلوقات عامة، ولو تتبعنا هذا المصطلح لوجدناه يشمل مجالات الحياة كلها:
١ - في قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، أي أقام حياته على الطاعة وعمل الخير.
٢ - وفي قوله تعالى: ﴿قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا﴾ [الكهف: ٨٧ - ٨٨]، حيث أطلق العمل الصالح على ما يقتضيه الإيمان من الواجبات، ومنها طاعة أولي الأمر والالتزام بأنظمة الدولة ومصالح المجتمع.
٣ - في قوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ [الفرقان: ٧٠].


الصفحة التالية
Icon