وقد اختلف العلماء في هذا النزول على أقوال:
أولها: أن القرآن قد نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر جملةً واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجَّماً في ثلاث وعشرين سنة. قاله ابن عباس وهو قول الأكثرين. وهو الراجح.
قال عنه الزركشي" إنه أشهر وأصح وإليه ذهب الأكثرون" (١).
ووصفه ابن حجر بأنه: "الصحيح المعتمد" (٢). وقال ذلك عنه -أيضا- القسطلاني في لطائف الإشارات (٣).
وذكر السيوطي أن القرطبي حكى الإجماع على أنه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا (٤).
وحكاية الإجماع في ذلك لا تصح لوجود المخالف في ذلك وتعدد المذاهب فيه.
وأدلة هذا القول:
١ - أنه ظاهر الآيات الثلاث في قوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ [القدر: ١] وقوله سبحانه: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ [الدخان: ٣] وقوله جل وعلا: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ [البقرة: ١٨٥].
فقد دل ظاهر هذه الآيات الثلاث أن القرآن الكريم أنزل جملة في ليلة واحدة توصف بأنها مباركة من شهر رمضان. وهذا وصف مغاير لصفة نزول القرآن الكريم على الرسول ﷺ حيث إنه من المعلوم المقطوع به أن القرآن نزل على الرسول ﷺ منجما مفرقا في نحو ثلاث وعشرين سنة حسب الوقائع والأحداث.
فتعين أن يكون هذا النزول الذي دل عليه ظاهر الآيات نزولا آخر غير النزول المباشر على النبي صلى الله عليه وسلم.
٢ - أنه صريح الآثار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأخبار التي استند إليها أصحاب هذا المذهب:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة". ثم قرأ: ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣]، ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ [الإسراء: ١٠٦] " (٥).

(١) البرهان: ١/ ٢٢٨.
(٢) فتح الباي: ٩/ ٤.
(٣) انظر: لطائف الإشارات: ٢٢.
(٤) الإتقان (١/ ١٤٨)، ومناهل العرفان (١/ ٣٩)، تفسير القرطبي (٢/ ٢٩٧).
(٥) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (٣٦٨)، وانظر طبعة المغرب بتحقيق أحمد الخياطي (٢/ ٢٠٢) وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢/ ٢٢٢) و (٢/ ٣٦٨) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (١/ ٣٦٨) وشعب الإيمان (٢/ ٤١٥) رقم ٢٢٤٩، والنسائي في التفسير (٢/ ١٣١) رقم ٣٩٢ وقال المحقق صحيح. وأخرجه ابن جرير في تفسيره (١٥/ ١٧٨) و (٣٠/ ٢٥٨). وانظر: فضائل القرآن للنسائي (٥٩)، وابن الضريس (٧٢). والمرشد الوجيز (١٤ - ) وذكره ابن كثير في فضائل القرآن (٦) عن أبي عبيد ثم قال: هذا إسناد صحيح.
وقال أبو عبيد: ولا أدري كيف قرأ يزيد في حديثه "فرقناه" مشددة أم لا؟ إلا أنه لا ينبغي أن تكون على هذا التفسير إلا بالتشديد "فرقناه".
وقراءة الجمهور بالتخفيف، وقرأ بالتشديد أبي، وعبد الله بن مسعود وعلي وابن عباس، وأبو رجاء وغيرهم. انظر تفسير ابن جرير (١٥/ ١٧٨)، والبحر المحيط (٦/ ٨٧). ومعجم القراءات القرآنية (٣/ ٣٤٢).


الصفحة التالية
Icon