ولا يخفى ما في هذا القول الأخير من ضعف، في كون جبريل عليه السلام يأخذ القرآن إلى السفرة ثم يأخذه منهم؛، دون إنكار صلة السفرة بالقرآن، قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)﴾ [عبس: ١٣ - ١٦].
والاتفاق حاصل والإجماع قائم على صفة نزول القرآن الكريم المباشر على الرسول ﷺ وأنه نزل منجما مفرقا من بعثته ﷺ إلى قرب وفاته ينزل أحيانا ابتداء بغير سبب وهو أكثر القرآن الكريم وأحيانا أخرى ينزل مرتبطا بالأحداث والوقائع والأسباب.
وأما نزوله جملة فهو ظاهر القرآن في قوله تعالى: ﴿شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن﴾ وقوله: ﴿إنا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ وقوله سبحانه: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ فهو أنزل في ليلة اسمها ليلة القدر، وصفتها أنها مباركة، وشهرها شهر رمضان. وهو صريح الأخبار الواردة عن ابن عباس، والتي لها حكم الرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما دام أن النزول جملة لا يعارض صراحة النزول السابق، ولا يرتبط به من خلال تلك النصوص. بل هو نزول خاص، ووجود معين حيث القرآن الكريم كلام الله ومنزل من عند الله يتلقاه جبريل عليه السلام من الله بلا واسطة عند نزوله به على الرسول ﷺ مباشرة.
وإن كان قد نزل به إلى بيت العزة فذلك نزول خاص. وأحد وجودات القرآن الكريم المتعددة. حيث يوجد القرآن الكريم في اللوح المحفوظ (١).
ويوجد - أيضا - في الصحف المطهرة الموجودة في أيدي الكرام البررة من الملائكة كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (١٦)﴾ [عبس: ١١ - ١٦].
ويوجد - كذلك - في بيت العزة من السماء الدنيا كما دلت على ذلك الأخبار عن ابن عباس. وجائز أن يكون الوجودان الأخيران مختلفين متغايرين وجائز أن يكونا وجودا واحدا بأن يكون القرآن الكريم في تلك الصحف في بيت العزة وبأيدي أولئك الملائكة الكرام كما يوجد في الأرض بنزوله على الرسول ﷺ والنزول مقترن بما عدا الأول من الوجودات المذكورة.
يقول البيهقي - رحمه الله -: "وقوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه في ليلة القدر﴾ يريد به والله أعلم إنا أسمعناه الملك، وأفهمناه إياه، وأنزلناه بما سمع فيكون الملك منتقلا به من علو إلى سفل" (٢).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - بعد عرض قرر فيه أن القرآن الكريم كلام الله منزل من عند الله كما هو صريح القرآن، قال: "فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد، ولا غيرهما، وإذا كان

(١) عد الشيخ عبد العظيم الزرقاني هذا الوجود تنزلا. وجعله التنزل الأول والصواب أنه وجود إذ لم يرد لفظ النزول مقترنا به فلا يصح أن يعد نزولا أو تنزلا. وانظر: المدخل لدراسة القرآن للشيخ محمد أبو شهبة (٤٧).
(٢) كتاب الأسماء والصفات للبيهقي (١/ ٣٦٢).


الصفحة التالية
Icon