لقد اهتم المفسرون، وعلماء القرآن منذ القدم بالناسخ والمنسوخ حتى ألًفوا في ذلك مصنفات كثيرة منهم أبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو داود السجستاني، وأبو جعفر النحاس، وابن الأنبا ري، ومكي بن أبي طالب القيسي، وابن العربي وآخرون (١).
وقيل أن بدء التدوين فيه يرجع إلى القرن الثاني الهجري، وكتب فيه: أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الأصمعي، ، وكان الصحابة وعلى رأسهم الإمام علي (عليه السلام) يرون أن معرفة الناسخ والمنسوخ شرطا في أهلية المفسر للتفسير والمحدث للحديث.
قال الأئمة: "ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ، وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم، قال هلكت وأهلكت" (٢).
وللمفسرين في الآيات المنسوخة آراء مختلفة تداخلت مع غيرها واشتبهت على كثير منهم. فظن بعض منهم أنه نسخ، ولو تمعنوا جيدا لوجدوها أنه ليس بنسخ، قال الزركشي: "إنما نسأ وتأخير، أو مجمل أُخِر بيان لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوَله خطاب آخر غيره، أو مخصوص من عموم، أو حكم عام لخاص، أو لمداخلة معنى في معنى، وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا وليس به... " (٣).
وللناسخ والمنسوخ الدور الكبير في استنباط الأحكام الشرعية، إذ به يعرف الحكم الثابت الباقي الذي يعمل به عن الحكم الزائل المتروك.
تعريف النسخ
النسخ لغة: رفع شيء وإثبات غيره مكانه، أو تحويل شيء إلى غيره، ومنه نسخ الكتاب ومنه: أمر كان يعمل به من قبل ثم ينسخ بحادث غيره ٠٠ وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه، فيقال: انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب ٠٠ ومنه نسخ الكتاب (٤).
وقيل النسخ في اللغة يطلق على معنيين (٥):
الأول: بمعنى الإزالة ومنه قوله تعالى ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ﴾ (الحج: ٥٢)، تقول العرب: نسخت الشمس الظل، أي أزالته حلت محله.
والثاني: نقل الشيء من كان إلى مكان دون تغير، ومنه نسخ الكتاب أي تكتب كتابا عن كتاب حرفا بحرف وكلمة بكلمة.
وبمعنى التبديل، ومنه قوله تعالى ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ﴾ [النحل: ١٠١].
وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث، بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد.
وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه نسخت الكتاب، إذ نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه (٦).
والنسخ في الشرع (الاصطلاح): - أجمع العلماء والمفسرون وكل من بحث في علوم القرآن أنً اختصاص النسخ في العلوم القرآنية هو إبطال حكم آية قرآنية بآية قرآنية أخرى.
فقيل النسخ في الشرع: "إزالة ما كان ثابتا بنص شرعي، سواء عمل به أم لم يعمل به" (٧).
وعرفه الراغب بأنه: "إزالة مثل الحكم الثابت بالشرع بشرع آخر مع التراخي" (٨).
وهناك تعريف للنسخ في اصطلاح الشريعة جامع مانع وكل التعاريف التي قيلت تنصب فيه هو "رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه" (٩).
وهذا المعنى الشرعي يتصل بالمعنى اللغوي الأول للنسخ (١٠).
أهمية النسخ في التفسير
من أساسات علوم التفسير علم الناسخ والمنسوخ وهو من العلوم التي لا يقوم إلا بها وكذلك لا يمكن معرفة الأحكام الشرعية المستنبطة وتفسير تعارض النصوص إلا بمعرفته، ولذلك أفرد له علماء أصول التفسير وعلماء أصول الفقه مصنفات قديما وحديثا.
قال القرطبي: " معرفة هذا الباب أكيدة، وفائدته كبيرة، لا يستغنى عنه معرفته العلماء ولا ينكره إلا الجهلة أنصاف المتعلمين، لما يترتب عليه من النوازل في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام روى البختري قال: دخل علي رضي الله عنه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس، قال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس. فقال: ليس برجل يذكر الناس، لكنه يقول: أنا فلان بن فلان اعرفوني. فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا، قال: فاخرج من مسجدنا ولا تذكر فيه، وفي رواية: أعلمت الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت. ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما" (١١).
اهتم العلماء والمفسرون والباحثون منذ القدم بموضع الناسخ والمنسوخ، وهي من الأمور التي يسر الله تعالى بها على المؤمنين وقت تنزيل القرآن في تطبيق الأحكام والوقوف على الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم من الأمور الواجب معرفتها عند كل من يريد أن
(٢) البرهان / الزركشي / ٢/ ٣٤.
(٣) المصدر نفسه: والصحيفة نفسها.
(٤) معجم مقاييس اللغة، مادة نسخ.
(٥) لسان العرب، ابن منظور: مادة (نسخ. ٩
(٦) الإتقان: ٣/ ٥١.
(٧) المصباح المنير، أحمد بن محمد الفيومي، مادة (نسخ) ص ٦٠٢.
(٨) مقدمة جامع التفاسير، الراغب: ص ٨٢.
(٩) انظر: النسخ في القرآن، مصطفى زيد: ١/ ١٠٥ ظ، الإحكام في أصول الأحكام/ الآمدي ٣/ ٩٨، الوجيز في أصول الفقه، عبد الكريم زيدان ص ٩٣٢.
(١٠) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، مكي ابن أبي طالب: ص ٤٣.
(١١) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: ٢/ ٦٢.