فى القرآن، بل هو اختلاف فى كلام البشر عن القرآن، والفرق بين القرآن والتفسير، تماماً كالفرق بين الخالق والمخلوق (١).
وقد سئل الإمام الغزالى عن معنى قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفى اختلاف والناس فيه، بل نفى الاختلاف عن ذات القرآن. يقال هذا كلام مختلف فيه، أى: لا يشبه أوله آخره فى الفصاحة، إذ هو مختلف، أى: بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو إلى الدنيا، أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر، وبعضه منزحف، وبعضه على أسلوب مخصوص فى الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله منزه عن هذه الاختلافات، فإنه على منهاج واحد فى النظم مناسب أوله آخره، وعلى مرتبة واحدة فى غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين (٢).
وقريب من هذا ما نقل عن ابن مسعود رضى الله عنه: " لا تنازعوا فى القرآن فإنه لا يختلف ولا يتلاشى، ولا ينفد لكثرة الرد، وإنه شريعة الإسلام وحدوده وفرائضه، ولو كان شئ من الحرفين -أى القراءتين - ينهى عن شئ يأمر به الآخر، كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله لا تختلف فيه الحدود ولا الفرائض، ولا شئ من شرائع الإسلام ولقد رأيتنا نتنازع عند رسول - ﷺ -، فيأمرنا فنقرأ فيخبرنا أن كلنا محسن..... " (٣).
ومن الأسباب التى كانت وراء هذه الآراء الكثيرة المتناثرة فى كتب التفسير، ولاسيّما المعنيّ منها بالتفسير المأثور والسبب المختار هو "اختلاف القراءات" إذ أن اختلاف القراءات كان سبباً فى اختلاف المفسرين حول بيان المعنى المقصود من النص القرآنى، وعليه قام العلماء بوضع ضوابط وقواعد كلية تساعد على حسم هذا الخلاف، والوصول إلى المعنى الراجح.
القراءات لغة واصطلاحا
القراءات: جمع قراءة، والقراءة فى اللغة مصدر قرأ، وفى الاصطلاح: مذهب من مذاهب النطق فى القرآن، يذهب إليه إمام من الأئمة مخالفاً به غيره، سواء أكانت هذه المخالفة فى نطق الحروف، أو فى نطق هيئاتها (٤).
وعلم القراءات: هو علم يعرف به كيفية النطق بالكلمات القرآنية، وطريق أدائها اتفاقاً واختلافاً، مع عزو كل وجه لناقله. فموضوع علم القراءات إذن، كلمات القرآن الكريم من حيث أحوال النطق بها، وكيفية أدائها (٥).
نشأة القراءات:
إن الزمن الذى نشأت فيه القراءات القرآنية، هو زمن نزول القرآن الكريم نفسه، ضرورة أن هذه القراءات، قرآن نزل من عند الله فلم تكن من اجتهاد أحد، بل هى وحى أوحاه الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد نقلها عنه أصحابه الكرام - رضى الله عنهم - حتى وصلت إلى الأئمة القراء، فوضعوا أصولها، وقعدوا قواعدها، فى ضوء ما وصل إليهم، منقولاً عن النبى -صلى الله عليه وسلم - وعلى ذلك، فالمعول عليه فى القراءات، إنما هو التلقى بطريق التواتر، جمع عن جمع يؤمن عدم تواطؤهم على الكذب، وصولاً إلى النبى صلى الله عليه وسلم. أو التلقى عن طريق نقل الثقة عن الثقة وصولاً كذلك إلى النبى صلى الله عليه وسلم، ويضاف إلى هذا القيد قيدان آخران سيذكران فى محلهما عند الحديث عن شروط القراءة الصحيحة، أو ضوابط قبول القراءة.
وانطلاقاً من ذلك وبناءً عليه، فإن إضافة هذه القراءات إلى أفراد معينين، هم القراء الذين قرأوا بها، ليس لأنهم هم الذين أنشأوها أو اجتهدوا فى تأليفها، بل هم حلقة فى سلسلة من الرجال الثقات الذين رووا هذه الروايات ونقلوها عن أسلافهم، انتهاءً بالنبى صلى الله عليه وسلم، الذى تلقى هذه القراءات وحياً عن ربه - جل وعلا. وإنما نسبت القراءات إلى القراء لأنهم هم الذين اعتنوا بها وضبطوها ووضعوا لها القواعد والأصول.
أما سبب اختلاف القراءات، ذلك أن الصحابة - رضى الله عنهم - كانوا من قبائل عديدة، وأماكن مختلفة، وكما هو معروف أنه كما تختلف العادات والطباع باختلاف البيئات، فهكذا اللغة أيضاً، إذ تنفرد كل بيئة ببعض الألفاظ التى قد لا تتوارد على لهجات بيئات أخرى، مع أن هذه البيئات جميعها تنضوى داخل إطار لغة واحدة، وهكذا كان الأمر، الصحابة عرب خلص بيد أن اختلاف قبائلهم ومواطنهم أدى إلى انفراد كل قبيلة ببعض الألفاظ التى قد لا تعرفها القبائل الأخرى مع أن الجميع عرب، والقرآن الكريم جاء يخاطب الجميع، لذلك راعى القرآن الكريم هذا الأمر، فجاءت قراءاته المتعددة موائمة لمجموع من يتلقون القرآن، فالتيسير على الأمة، والتهوين عليها هو السبب فى تعدد القراءات.
- والأحاديث المتواترة الواردة حول نزول القرآن على سبعة أحرف تدل على ذلك:
-جاء فى الصحيحين: عن ابن عباس رضى الله عنهما - أن رسول الله - ﷺ - قال: " أقرأنى جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدنى حتى انتهى إلى سبعة أحرف" (٦)، وزاد مسلم: " قال ابن شهاب: بلغنى أن تلك السبعة فى الأمر الذى يكون واحداً لا يختلف فى حلال ولا حرام" (٧).
- وأخرج مسلم بسنده عن أبى بن كعب، أن النبى - ﷺ - كان عند أَضَاة بنى غفار (٨) قال: " فأتاه جبريل - عليه السلام - فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتى لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله

(١) بين القراءات والتفسيرتأصيل وتطبيق، أ ٠ د/أحمد سعد الخطيب، أستاذ التفسير وعلوم القرآن بجامعة الأزهر (بحث منشور بتصرف بسيط).
(٢) انظر: البرهان فى علوم القرآن ١/ ٤٦، معترك الأقران ١/ ٩
(٣) أخرجه الطبري (١٨): ص ١/ ٢٨. إسناده ضعيف جدا.
(٤) المهذب فى القراءات العشر ١/ ٦
(٥) المهذب فى القراءات العشر: ١/ ٦
(٦) انظر صحيح البخارى، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف
(٧) انظر: صحيح مسلم، كتاب صلاة المسفرين، باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف
(٨) مستنقع ماء كالغدير، كان بموضع بالمدينة نزل عنده بنو غفار فنسب إليهم


الصفحة التالية
Icon