قال العلامة السعدي: " وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فالأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله ـ تعالى ـ لم ينزلها عبثاً، بل لحكمة لا نعلمها" (١).
وبعد هذا الاتفاق حدث اختلاف في شيء آخر، وهو: هل هذه الحروف المقطعة ـ التي لها معنى ونزلت لحكمة ـ هل يُدْرَك معناها من جميع الوجوه، ونقف على الحكمة منها؟
وينحصر الاختلاف بين أهل العلم في اتجاهين اثنين: -
الاتجاه الأول: أن تلك الحروف هي من من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فنؤمن بها، ونقرأها كما جاءت، وممن قال ذلك:
الشعبي (٢)، وسفيان الثوري (٣)، ومن المفسرين كل من: أبو حيان (٤) والآلوسي (٥)، وقاله زكريا الأنصاري في كتابيه فتح الرحمن (٦).
يرى أصحاب هذا الإتجاه بأن هذه الحروف لها معنى ونزلت لحكمة، غير أننا لا ندرك هذا المعنى ولا تلك الحكمة، وإنما يقال: هذه الحروف من حروف المعجم، ذكرها الله في أوائل بعض سور كتابه، واختص الله بعلم المراد منها (٧).
رُوِي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه أنه قال: في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور (٨).
وعن علي بن أبي طالب تعالى أنه قال: إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي (٩).
وقد اعترض بعض العلماء على هذا الإتجاه وساقوا الأدلة على أنه: لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، ومنهم الرازي، واحتج عليه بالآيات والأخبار والمعقول.
أما الآيات:
أحدها: قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّروُنَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوُب أقْفالها﴾ [محمد: ٢٤]، أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه.
(٢) عزاه إليه القرطبي، الجامع لأحكام القرآن (١/ ١٥٤)، والشعبي هو عامر بن شراحيل الهمداني الكوفي من شعب همدان مولده في أثناء خلافة عمر كان إماماً حافظاً فقيهاً روى عن أبي هريرة وابن عباس وعائشة وعبد االله بن عمر وغيرهم. أنظر الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان، تذكرة الحفاظ، (ط ١/ ١٤١٩ هـ – ١٩٩٨ م) (١: ٦٣).
(٣) عزاه إليه ابن كثير في تفسير القرآن (١: ٣٦ (وسفيان هو أبو عبد االله سفيان ابن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري الكوفي، كان إماما في علم الحديث وغيره من العلوم، ومولده في سنة سبع وتسعين للهجرة توفي بالبصرة سنة ١٦١ هـ، أنظر ابن خلكان، أبي العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، ٨ مج، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر – بيروت، لم تذكر الطبعة وسنة الطبع (٢: ٣٨٦ - ٣٨٩).
(٤) ينظر: البحر المحيط في التفسير، محمد بن يوسف أبو حيان، ١١ مج، دار الفكر، بيروت – لبنان (١٤١٢ هـ - ١٩٩٢ م) لم تذكر رقم الطبعة (١: ٦٠).
(٥) ينظر: روح المعاني، الآلوسي: ١/ ١٠٠.
(٦) ينظر: فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن، أبو يحيى زكريا الأنصاري، ١ مج، تحقيق محمد علي الصابوني، عالم الكتب، بيروت (ط ١/ ١٤٠٥ هـ – ١٩٨٥ م) (ص ١٩
(٧) انظر جامع البيان في تفسير القرآن للإمام أبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن خالد الطبري ١/ ٦٨، ط دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤٠٥ هـ، وتفسير السمعاني للإمام أبي المظفر منصور بن محمد بن عبد الجبار السمعاني ٢/ ١٦٣، ط دار الوطن ـ الرياض ـ، الأولى ١٤١٨ هـ ١٩٩٧ م، بتحقيق/ياسر بن إبراهيم، وغنيم بن عباس بن غنيم. ومعالم التنزيل للحسين بن مسعود بن محمد البغوي ١/ ٤٤، ط دار المعرفة ـ بيروت ـ، الثانية ١٤٠٧ هـ ١٩٨٧ م، بتحقيق/خالد عبدالرحمن العك، والجامع لأحكام القرآن للإمام أبي عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ١/ ١٥٤، ط دار الشعب ـ القاهرة ـ والبحر المحيط في التفسير للإمام أثير الدين أبي حيان محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الأندلسي ١/ ١٥٧، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ، الأولى ١٤٢٢ هـ ٢٠٠١ م، بتحقيق الشيخ/عادل أحمد عبدالموجود، والشيخ/علي محمد معوض.
(٨) لم أجد هذا الأثر عن أبي بكر مسنداً، ولكن ذكره أبوالفرج عبدالرحمن بن علي بن محمد ابن الجوزي في زاد المسير في علم التفسير ١/ ٢٠، ط المكتب الإسلامي ـ بيروت ـ، الثانية ١٤٠٤ هـ، والرازي في مفاتيح الغيب ٢/ ٢٤٩، وأبوحيان في البحر المحيط ١/ ١٥٧، وأبوالسعود محمد بن محمد العمادي في إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الحكيم ١/ ٢١، ط دار إحياء التراث ـ بيروت ـ.
(٩) انظر مفاتيح الغيب ٢/ ٢٤٩، والجامع لأحكام القرآن ١/ ١٥٤، وإرشاد العقل السليم ١/ ٢١.