ثانيها: قوله تعالى: ﴿بِلِسانٍ عَرَبِيٍ مُبِين﴾ [الشعراء: ٩٥]، يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً.
وأما الأخبار: فقوله عليه السلام: "إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن تبعتموهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي" (١) فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم!
ما المعقول، فمن وجوه:
أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا.
ثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفها، وأنه لا يليق بالحكيم.
وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن، وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به (٢).
وفي صدد رده على الإتجاه السابق يقول الرازي: إن "الأفعال التي كلفنا بها قسمان: منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة.
ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج، فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات، والسعي بين الصفا والمروة، والاضطباع (٣).
ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم.
فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز - أيضاً- أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله - تعالى -تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر.
بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله ـ تعالى ـ أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة (٤) ": اهـ
ثم أوضح ذلك في موضع آخر قائلاً: " وقد ذكرنا الحكمة فيه، وهي أن العبد إذا أتى بما أُمِر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون إلا آتياً بمحض العبادة، بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي به للفائدة وإن لم يؤمن، كما لو قال السيد لعبده: انقل هذه الحجارة من ههنا، ولم يعلمه بما في النقل، فنقلها؛ ولو قال: انقلها فإن تحتها كنزاً هو لك ينقلها وإن لم يؤمن.

(١) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين أنظر الحاكم محمد بن عبد االله أبو عبد االله النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، ٤ مج، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت (ط ١/ ١٤١١ هـ- ١٩٩٠ م) حديث رقم ٤٥٧٧) ٣: ١١٨ (وسأشير إليه فيما بعد: الحاكم، المستدرك ورواه الترمذي، سنن الترمذي، كتاب المناقب باب (٣١ (مناقب أهل بيت النبي صلى االله عليه وسلم حديث رقم (٣٨١١) (٥: ٤٣٣) وقال هذا حديث غريب حسنُ من هذا الوجه. وصححه الألباني أنظر الألباني صحيح الجامع الصغير حديث رقم (٢٧٤٨) (١: ٥٣٣).
(٢) أنظر: الفخر الرازي المشتهر بالتفسير الكبير ومفاتيح الغيب، محمد الرازي فخر الدين، تفسير، ١٧ مج، دار الفكر، بيروت – لبنان (١٤١٥ هـ – ١٩٩٥ م) (د. ط) (٢/ ٥).
(٣) الاضطباع في اللغة: افتعال من الضبع، وهو وسط العضد، وقيل: الإبط (للمجاورة). ومعنى الاضطباع المأمور به شرعاً: أن يُدْخَل الرجل رداءه الذي يلبسه تحت منكبه الأيمن فيلقيه على عاتقه الأيسر وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة، ويطلق عليه التأبط والتوشح. انظر لسان العرب لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري ١/ ١٥٨، ط دار صادر ـ بيروت ـ، الأولى، والموسوعة الفقهية لوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، ٥/ ١٠٩.
(٤) مفاتيح الغيب ٢/ ٢٥١ و ٢٥٢، وانظر روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني لمحمود بن عبدالله الحسيني الآلوسي ١/ ٩٩، ط دار إحياء التراث ـ بيروت ـ.


الصفحة التالية
Icon