إذا عُلِم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية وجب أن يكون منها ما لا يفهم معناه حتى إذا تكلم به العبد علم منه أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي، فإذا قال: ﴿حم﴾ [غافر: ١]، ﴿يس﴾ [يس: ١]، ﴿الم﴾ [البقرة: ١]، ﴿طس﴾ [النمل: ١]. علم أنه لم يذكر ذلك لمعنى يفهمه أو لا يفهمه فهو يتلفظ به إقامة لما أُمِر به (١) ": اهـ
ومن ثم يُعْلَم أن في إيراد هذه الفواتح التي استأثر الله بعلمها امتحاناً واختباراً من الله لعباده، وقصاً لجناح العقل، وكبحاً لجماح غروره، ورداً لدعواه استكناه كل شئ: " فهذا يوضح أن حروفاً من القرآن سُتِرَت معانيها عن جميع العالم اختباراً من الله ـ عز وجل ـ، وامتحاناً، فمن آمن بها أُثِيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد (٢) ".
يقول الزرقاني: "يقولون بهذا الرأي أنها من الأسرار التي استأثر االله بعلمها ولم يطلع عليها أحداً من خلقه وذلك لحكمة من حكمه تعالى السامية، وهي ابتلاؤه سبحانه وتمحيصه لعباده حتى يميز الخبيث من الطيب، وصادق الإيمان من المنافق، بعد أن أقام لهم أعلام بيانه، ودلائل هدايته، وشواهد رحمته في غير تلك الفواتح من كتابه بين آيات وسور كثيرة، لا تعتبر تلك الفواتح في جانبها إلا قطرة من بحر أو غيضاً من فيض" (٣).
ويقول مكي بن أبي طالب: "وهذا يوضح أن حروفاً من القرآن سترت معانيها عن جميع العالم اختباراً من االله عز وجل وامتحاناً فمن آمن بها أثيب وسعد، ومن كفر وشك أثم وبعد" (٤).
وممن ذهب هذا مذهب الإتجاه الأول الشوكاني حيث نصر هذا المذهب بشدة، وجعل هذه الأحرف متشابه المتشابه، وغلظ القول على من قال فيها برأيه فقال: "إن من تكلم في بيان معاني هذه الحروف جازماً بأن ذلك هو ما أراده االله عز وجل، فقد غلط أقبح الغلط، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط.. ثم قال: فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظاً عربية وتراكيب مفهومة، وقد جعل االله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ، فكيف بما نحن بصدده، فإنه ينبغي أن يقال فيه انه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلاً ولكلام العرب فيه مدخلاً فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير" (٥).
الاتجاه الثاني: أن هذه الحروف لها معنى ولها حكمة، وتلك الحكمة وهذا المعنى ندركهما عن طريق الاستنباط والاجتهاد، فتكلموا في معاني هذه الحروف واستنبطوا لها وجوهاً من التأويل.
وقد تعددت أقوال المفسرين في تفسير هذه الحروف المفتتح بها أوائل السور حتى وصل بها الحافظ ابن حجر - رحمه الله - إلى ثلاثين قولاً (٦).
وفيما يأتي نذكر أشهر تلك الأقوال مشفوعة بتوجيهها، والتدليل عليها:
القول الأول: أنها لبيان أعجاز القرآن
ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحروف ذكرت في أوائل السور التي وردت فيها لبيان إعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته مع أنه مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها ويؤلفون منها كلامهم.
فهم يرون بأنها حروف وردت بأسمائها مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تُحِدِّى بالقرآن، وتنبيهاً على أن هذا المتلو عليهم - وقد عجزوا عنه عن آخرهم - كلام منظوم من عين ما ينظمون
(٢) الجامع لأحكام القرآن ١/ ١٥٤.
(٣) مناهل العرفان: ١/ ٢٢٧.
(٤) العمدة في غريب القرآن، أبو محمد بن أبي طالب القيسي مكي: ١ مج، تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشيلي، مؤسسة الرسالة، بيروت (ط ٢/ ١٤٠٤ هـ – ١٩٨٤ م)، (ص ٦٩ (
(٥) فتح القدير، الشوكاني: ١/ ٤٨ - ٤٩.
(٦) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ٨/ ٥٥٤، ط دار المعرفة ـ بيروت ـ، بتحقيق/محب الدين الخطيب.