منه كلامهم، ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أنه لم تتساقط مقدرتهم دونه ولم يظهر عجزهم عن أن يأتوا بمثله - وهم أرباب الفصاحة وأمراء البيان - إلا لأنه ليس من كلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقُدَر (١).
وممن قال بذلك: الباقلاني (٢) والزمخشري (٣) والرازي (٤) وابن كثير (٥) وسيد قطب (٦).
وقد رد بعضهم أمثال الشيخ محمد شلتوت هذا القول ولم يعد الفواتح من باب التحدي أو الإعجاز فقال: "إن القول بأنه للتنبيه على أن هذا القرآن من مادة الكلام الذي ألفوه وقد عجزوا مع ذلك عنه قول يعتمد على قضيتين يقصدهما القائلون به من الواقع التاريخي لموقف العرب من القرآن، ومن طبيعة هذه الحروف:
١ - إحداهما: أن هذه من حروف التهجي المعروفة عند العرب التي يتركب منها كلامهم، وأن القرآن مؤلف منها.
٢ - والأخرى: انهم مع ذلك قد عجزوا عن الإتيان بمثله.
وما كان للعرب أن يجهلوا أو يغفلوا عن أن القرآن الذي يتلوه عليهم محمد صلى االله عليه وسلم هو من هذه الحروف، أما عجزهم عن الإتيان بمثله فهو أمر يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه التاريخ عنهم وقد سجله القرآن عليهم بالعبارة الواضحة البينة، فليس الأمر في القضيتين بمحتاج إلى استخدام رمز كهذا الرمز البعيد الذي لا يستند إلى نقل صحيح ولا فهم واضح" (٧).
وقيل أن هذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزل ولا محذور فيه، وذلك من عدة وجوه منها (٨):
الوجه الأول: استقراء القرآن الكريم يدل على أن هذه الحروف المقطعة ذُكِرَت للإشارة إلى إعجاز القرآن، وأنه من كلام الرحمن، وليس من كلام أحد من بني الإنسان.
فقد ذهب بعض العلماء إلى أن المقصود من هذه الأحرف بيان نبوة محمد صلى االله عليه وسلم وذلك من ناحية انه ينطق بأسامي الحروف مع أنه أمي لم يقرأ ولم يكتب، والمعروف أن النطق بأسامي الحروف من شأن القارئ وحده، لا سبيل للأمي إلى معرفتها ولا النطق بها، فإتيانه بها وترديده لها دليل مادي أمامهم على أنه لا يأتي بهذا القرآن من تلقاء نفسه، إنما يتلقاه من لدن حكيم عليم.
فالسور التي افتتحت بتلك الحروف المقطعة تسع وعشرون سورة، ذُكِر الانتصار للقرآن في خمس وعشرين منها، ففي سورة البقرة - مثلاً - يقول الله - تعالى -: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١، ٢]، فذلك الكتاب الذي ليس فيه ريب، وفيه هدى للمتقين مؤلف من الألف واللام والميم؛ وفي سورة يونس يقول تعالى: ﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: ١]، وفي سورة طه يقول - تعالى -: ﴿طه (١) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: ١، ٢]، وفي سورة الشعراء يقول تعالى: ﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الشعراء: ١، ٢]، وفي سورة ص يقول - تعالى -: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ﴾ [ص: ١، ٢]، وفي سورة: ق يقول - تعالى -: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: ١].
وكون هذه الأحرف ذُكِرَت في السور المكية - إلا سورتي البقرة وآل عمران - مما يقرر أن المراد الإشارة إلى إعجاز القرآن، لأن المشركين كانوا يكثرون اللغط حول القرآن، فذُكِرَت هذه الأحرف في بداية

(١) انظر الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري ١/ ٦٩، ط دار لإحياء التراث ـ بيروت ـ، بتحقيق/عبدالرزاق المهدي، والبحر المحيط ١/ ١٥٧، وتفسير القرآن العظيم للإمام أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير ١/ ٣٩، ط دار الغد العربي ـ القاهرة ـ، الأولى ١٤١١ هـ ١٩٩١ م، بتحقيق الدكتور/سعد عبد المقصود ظلام، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل لعبدالله بن عمر بن محمد بن علي البيضاوي ١/ ٨٦، ط دار الفكر ـ بيروت ـ وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للعلامة محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي ٣/ ٦، ط دار الفكر ـ بيروت ـ، ١٤١٥ هـ، وانظر الإتقان في علوم القرآن لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد السيوطي ٣/ ٢٦، ط دار الفكر ـ بيروت ـ، الأولى ١٤١٦ هـ ١٩٩٦ م، بتحقيق/سعيد المندوب.
(٢)، إعجاز القرآن، أبوبكر محمد بن الطيب الباقلاني: ١ مج، تحقيق الشيخ عماد الدين احمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت – لبنان، (ط ٤ (لم تذكر سنة الطبع (ص ٦٨ - ٦٩ (
(٣) ينرظ: الكشاف: ١/ ٩٥ - ٩٧.
(٤) ينظر: التفسير الكبير: ٢/ ٨.
(٥) ينظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٣٧ - ٣٨.
(٦) ينظر: في ظلال القرآن، ٦ مج، دار الشروق (ط ٩/ ١٤٠٠ هـ - ١٩٨٠ م) (١: ٣٨ (.
(٧) تفسير القرآن الكريم، شلتوت: ٥٦.
(٨) ينظر: تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور، د. محمد حسن أبو النجا (بحث منشور في شبكة الآلوكة).


الصفحة التالية
Icon