ويدخل في هذا القول ما روي عن عبد الله بن عباس أيضاً وكذلك عبد الله بن مسعود أن هذه الأحرف هي اسم الله الأعظم (١).
ويقرر ذلك ابن عطية بأنه إذا أمكن تأليفه منها، إلا أنا لا نعرف تأليفه منها (٢).
أو أن هذه الحروف أبعاض أسماء لله - تعالى -، بعضها يُعْلَم كيفية تركيبه منها، وبعضها لا يُعْلَم، فعن ابن عباس أنه قال: " (الر) و (حم) و (ن): الرحمن مُفَرَّقة" (٣).
كما نقل الفخر الرازي وأبو حيان عن سعيد بن جبير تعالى أنه قال: قوله (آلر، حم، ن) مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي (٤).
أو هي حروف يدل بعضها على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات والأفعال، على نحو ما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في تفسير: (الم) من قوله: أنا الله أعلم، وقوله في: (الر): أنا الله أرى، وفي: (المص): أن الله أفصل (٥).
أو هي حروف يدل بعضها على أسماء الله ـ تعالى ـ وبعضها على أسماء غيره سبحانه، فعن ابن عباس في قوله تعالى: " (الم) يقول: ألف الله، لام جبريل، ميم محمد" (٦)، أي: أنزل الله هذا الكتاب الذي لا ريب فيه على لسان جبريل إلى محمد - صلى الله عليه وسلم- (٧).
وهذا القول له وجه، لأن العرب قد تُطْلِقُ الْحَرْفَ الواحد من الكلمة، وَتُرِيدُ به جميع الكلمة، كقول الراجز (٨):
قلنا لها قفي فقالت: قاف... لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف.
فقوله: "قاف"، أي: وقفتُ (٩)، فدلت بإظهار القاف من «وقفت» على مرادها من تمام الكلمة التي هي «وقفت». فصرفوا قوله: (الم) وما أشبه ذلك إلى نحو هذا المعنى.
وكقول القائل (١٠):
بالخير خيرات وإن شراً فا... ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني: وإن شراً فشر، ولا أريد الشرّ إلا أن تشاء، وبذلك اكتفى بالتاء والفاء عن بقية الكلمتين جميعاً عن سائر حروفهما (١١).
وقد ورد في السنة ما يشير إلى هذا، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله ـ عز وجل ـ مكتوب بين ـ عينيه: آيس من رحمة الله (١٢).
وعن بن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة: آيس من رحمة الله (١٣).
(٢) انظر المحرر الوجيز ١/ ٨٢.
(٣) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ١/ ٣٢، وانظر الإتقان للسيوطي ٣/ ٢١.
(٤) انظر مفاتيح الغيب ٢/ ٢٥٢، والبحر المحيط ١/ ١٥٦.
(٥) انظر تفسير ابن جرير الطبري ١/ ٦٧ و ٦٨ وابن أبي حاتم ١/ ٣٢، والرازي ٢/ ٢٥٣، والبحر المحيط ١/ ١٥٧.
(٦) انظر تنوير المقباس من تفسير ابن عباس ص ٣.
(٧) انظر زاد المسير ١/ ٢٢، ومفاتيح الغيب ٢/ ٢٥٣، والبحر المحيط ١/ ١٥٧، وإرشاد العقل السليم ١/ ٢١.
(٨) البيت غير منسوب لأحد في لسان ٩/ ٣٥٩، وتهذيب اللغة لمحمد بن أحمد الأزهري ١٥/ ٦٧٩، ط دار المعارف ـ بيروت ـ ١٤٢٢ هـ ٢٠٠١ م، بتحقيق الدكتور/رياض زكي فاسم، وانظر المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية، إعداد الدكتور/إميل بديع يعقوب ٤/ ٢١٥، ط دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ، الأولى ١٤١٧ هـ ١٩٩٦ م.
(٩) انظر معالم التنزيل للبغوي ١/ ٤٤، والمحرر الوجيز ١/ ٨٢ و ٨٣.
(١٠) البيت نسبه ابن منظور في لسان العرب ١٥/ ٢٨٨ إلى حكيم بن مَعْيَة التميمي، ونسبه بن عطية في المحرر الوجيز ١/ ٨٣ والقرطبي في الجامع ١/ ١٥٥ إلى زهير بن أبي سلمى، وهو غير منسوب في شرح شواهد الشافية لعبدالقادر البغدادي ص ٢٦٢، ط مطبعة حجازي ـ القاهرة ـ.
(١١) انظر جامع البيان ١/ ٧٠، والمحرر الوجيز ١/ ٨٣، والجامع لأحكام القرآن ١/ ١٥٥، والبحر المحيط ١/ ١٥٨.
(١٢) أخرجه ابن ماجه في سننه ٢/ ٨٧٤، كتاب: الديات، باب: التغليظ في قتل مسلم ظلماً، برقم (٣٦٢٠)، والربيع بن حبيب بن عمر الأزدي في مسنده ص ٢٩٢، وأبو يعلى في مسنده ١٠/ ٣٠٦، والبيهقي في السنن الكبرى ٨/ ٢٢، وهو حديث حسن بجموع طرقه.
(١٣) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان ٤/ ٣٤٦، وأبو نعيم الأصبهاني في تاريخ أصبهان ١/ ١٨٨.