والراجح: أنه عنى بها اليهود، لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد، ومعنى الآية: "إن الذين كفروا من اليهود بمحمد ﷺ عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله" (١).
الفوائد:
١ - إن الذي يرتد عن الاسلام فإنه إذا بقي على حاله، فإنه لا تقبل توبته عند الموت.
٢ - أنه كلما مادى الإنسان في الكفر، ولم يتب، فإنه يزداد، لأن كل وقت يمر يزداد وزرا إلى وزره، كما ان المؤمن يزداد لأيضا بزيادة الأيام إيمانا.
٣ - أن من تاب قبل أن يحضر اجله فإن الله يتوب عليه.
٤ - إن من استمر على كفره، فإنه ضال، لأنه اجتنب طريق الحق، قال تعالى: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ [يونس: ٣٢]
القرآن
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٩١)﴾ [آل عمران: ٩١]
التفسير:
إن الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وماتوا على الكفر بالله ورسوله، فلن يُقبل من أحدهم يوم القيامة ملء الأرض ذهبًا، ليفتدي به نفسه من عذاب الله، ولو افتدى به نفسه فِعْلا. أولئك لهم عذاب موجع، وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [آل عمران: ٩١]، أي: إن الذين" كفروا ثم ماتوا على الكفر ولم يتوبوا" (٢).
قال الحسن: " هو كل كافر" (٣).
قال ابن كثير: " أي: من مات على الكفر" (٤).
قال الطبري: "أي: جحدوا نبوة محمد ﷺ ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم، : وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به " (٥).
قوله تعالى: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ﴾ [آل عمران: ٩١]، " أي: لن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً" (٦).
قال ابن كثير: " أي: من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدًا، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قُرْبة، كما سئل النبي ﷺ عن عبد الله بن جُدْعان - وكان يُقْرِي الضيفَ، ويَفُكُّ العاني، ويُطعم الطعام -: هل ينفعه ذلك؟ فقال: "لا إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِن الدَّهْرِ: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يوم الدِّينِ" (٧) " (٨).
قال الطبري: ": فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة

(١) تفسير الطبري: ٦/ ٥٨١.
(٢) صفوة التفاسير: ١٩٦.
(٣) أخرجه الطبري (٧٣٨٥): ص ٦/ ٥٨٥.
(٤) تفسير ابن كثير: ٢/ ٧٢.
(٥) تفسير الطبري: ٥/ ٥٨٤.
(٦) صفوة التفاسير: ١٩٦.
(٧) رواه مسلم في صحيحه برقم (٢١٤) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٨) تفسير ابن كثير: ٢/ ٧٢.


الصفحة التالية
Icon