قال السعدي: " ﴿مباركا﴾ أي: فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية والدنيوية كما قال تعالى ﴿ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ ﴿وهدى للعالمين﴾ والهدى نوعان: هدى في المعرفة، وهدى في العمل، فالهدى في العمل ظاهر، وهو ما جعل الله فيه من أنواع التعبدات المختصة به، وأما هدى العلم فبما يحصل لهم بسببه من العلم بالحق بسبب الآيات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله ﴿فيه آيات بينات﴾ " (١).
وفي تفسير العالمين قولان:
أحدهما: أن الإنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم من الملائكة على الأرض، والأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته. قاله أبو العالية (٢).
والثاني: أن العالمين ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وهذا قول تبيع (٣).
الفوائد:
١ - ان أول بيت وضع للعبادة هو الكعبة التي في مكة، فيكون سابقا على بيت المقدس، وآخر بيت وضع للعبادة: المسجد النبوي، وهذه هي المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال كما ورد في الحديث (٤).
٢ - أن تقدم المكان في العبادة له أثر في تفضيله، لذلك قال أهل العلم أن المسجد القديم لإقامة الجماعة أفضل من المسجد الحديث.
٣ - فضيلة هذا البيت لكونه اول بيت وضع للناس للعبادة.
٤ - أن هذا البيت مبار قدرا وشرعا، وأنه هدى ومنار للعالمين، يهتدون به ويهتدون إليه، ويؤمونه في عباداتهم.
القرآن
﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧)﴾ [آل عمران: ٩٧]
التفسير:
في هذا البيت دلالات ظاهرات أنه من بناء إبراهيم، وأن الله عظَّمه وشرَّفه، منها: مقام إبراهيم عليه السلام، وهو الحَجَر الذي كان يقف عليه حين كان يرفع القواعد من البيت هو وابنه إسماعيل، ومن دخل هذا البيت أَمِنَ على نفسه فلا يناله أحد بسوء. وقد أوجب الله على المستطيع من الناس في أي مكان قَصْدَ هذا البيت لأداء مناسك الحج. ومن جحد فريضة الحج فقد كفر، والله غني عنه وعن حجِّه وعمله، وعن سائر خَلْقه.
في سبب نزول الآية وجوه:
أحدها: أخرج الطبري عن عكرمة: " ﴿ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه﴾، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه ﷺ يحُجُّهم أنْ: ﴿لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ " (٥).
والثاني: ونقل ابن حجر من طريق ليث بن اسلم عن مجاهد: "آية فرقت بين المسلمين وأهل الكتاب لما نزلت: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ قالت اليهود: [قد أسلمنا] (٦) فنزلت: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ الآية فقالوا: لا نحجه أبدًا" (٧).
والثالث: ونقل ابن حجر عن سعيد بن المسيب: "نزلت في اليهود حيث قالوا: الحج إلى مكة غير واجب فأنزل الله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ " (٨).

(١) تفسير السعدي: ١٣٨.
(٢) أخرجه ابن ابي حاتم (٣٨٤٣): ص ٣/ ٧١٠.
(٣) أخرجه ابن ابي حاتم (٣٨٤٤): ص ٣/ ٧١٠.
(٤) انظر: صحيح البخاري (١١٨٩)، وصحيح مسلم (١٣٩٧).
(٥) تفسير الطبري (٧٣٥٧): ص ٦/ ٥٧١. وانظر: (٧٣٥٦)، و (٧٣٥٨): ص ٦/ ٥٧١.
(٦) ما بين المعقوفين هو ما ترجح عند المحقق، وفي "الدر المنثور" "٢/ ٢٧٦": "فنحن مسلمون".
(٧) العجاب: ٢/ ٧١٩.
(٨) العجاب: ٢/ ٧٢٠. ولم اجد هذه الرواية في تفسير سفيان المطبوع.


الصفحة التالية
Icon