جعل الله الهوان والصغار أمرًا لازمًا لا يفارق اليهود، فهم أذلاء محتقرون أينما وُجِدوا، إلا بعهد من الله وعهد من الناس يأمنون به على أنفسهم وأموالهم، وذلك هو عقد الذمة لهم وإلزامهم أحكام الإسلام، ورجعوا بغضب من الله مستحقين له، وضُربت عليهم الذلَّة والمسكنة، فلا ترى اليهوديَّ إلا وعليه الخوف والرعب من أهل الإيمان; ذلك الذي جعله الله عليهم بسبب كفرهم بالله، وتجاوزهم حدوده، وقَتْلهم الأنبياء ظلمًا واعتداء، وما جرَّأهم على هذا إلا ارتكابهم للمعاصي، وتجاوزهم حدود الله.
قوله تعالى: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا﴾ [آل عمران: ١١٢]، "أي: ألزمهم الله الذلة والصَّغَار أينما كانوا، فلا يأمنون" (١).
قال الطبري: أي: " ألزِم اليهود المكذبون بمحمد ﷺ الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين" (٢).
قال الحسن: " أذلهم الله فلا مَنْعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين" (٣).
وعن الحسن أيضا: " أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية" (٤).
قال ابن عباس: " هم أصحاب القبالات كفروا بالله العظيم" (٥).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢]، " أي: إِلا إذا اعتصموا بذمة الله وذمة المسلمين" (٦).
قال ابن كثير: " أي: إلا بذمة من الله، وهو عَقْد الذمة لهم وضَرْب الجزية عليهم، وإلزامهم أحكام الملة، و ﴿وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ﴾: أي: أمان منهم ولهم، كما في المُهَادَن والمعاهَد والأسير إذا أمَّنَه واحد من المسلمين ولو امرأة، وكذَا عَبْد، على أحد قولي العلماء" (٧).
قال قتادة: " إلا بعهد من الله وعهد من الناس" (٨). وروي عن ابن عباس (٩)، ومجاهد (١٠)، والسدي (١١)، والضحاك (١٢)، وعكرمة (١٣)، وابن زيد (١٤)، مثل ذلك.
قال الطبري: " وأما ﴿الحبل﴾ الذي ذكره الله في هذا الموضع، فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام" (١٥).
قال الزجاج: " والحبل العهد، فأعلم الله أنهم بعد عز كانوا فيه يبلغون في الذلة ما لا
يبلغه أهل مكة، وكانوا ذوي منعة ويسار، فأعلم الله أنهم يذلون أبدا إلا أن يعزوا بالذمة التي يعطونها في الإسلام. وما بعد الاستثناء، ليس من الأول أنهم أذلاء إلا أنهم يعتصمون بالعهد إذا أعطوه" (١٦).
أخرج الطبري عن ابن زيد: " في قوله: ﴿أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس﴾، قال: إلا بعهد، وهم يهود. قال: والحبل العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله ﷺ حين أتته الأنصار في العقبة: أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس، يقول: عهودًا، قال: واليهود لا يأمنون

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ١٠٤.
(٢) تفسير الطبري: ٧/ ١١٠.
(٣) أخرجه الطبري (٧٦٣١): ص ٧/ ١١١.
(٤) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٩٨٧): ص ٣/ ٧٣٥.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٩٨٦): ص ٣/ ٧٣٥.
(٦) صفوة التفاسير: ٢٠٢.
(٧) تفسير ابن كثير: ٢/ ١٠٤.
(٨) أخرجه الطبري (٧٦٣٣): ص ٧/ ١١١.
(٩) انظر: تفسير الطبري (٧٦٣٦): ص ٧/ ١١٢.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (٧٦٣٨٢): ص ٧/ ١١١.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٧٦٣٦): ص ٧/ ١١٢.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (٧٦٤١): ص ٧/ ١١٣.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (٧٦٣٢٥): ص ٧/ ١١١.
(١٤) انظر: تفسير الطبري (٧٦٤٠): ص ٧/ ١١٢.
(١٥) تفسير الطبري: ٧/ ١١١.
(١٦) معاني القرآن: ١/ ٤٥٧.


الصفحة التالية
Icon