قال ابن كثير: " أي: بل الأمر كلّه إلي، كما قال: ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرعد: ٤٠] وقال ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة: ٢٧٢]. وقال ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦] " (١).
قال الماتريدي: أي: " إنما أنت عبد مأمور؛ فليس لك من الأمر؛ إنما ذلك إلى الواحد القهار، الذي لا شريك له ولا ند؛ كقوله: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤] " (٢).
قال المراغي: " أي ليس إليك أيها الرسول من أمر خلقى إلا أن تنفذ فيهم أمرى، وتنتهى فيهم إلى طاعتى، ثم أمرهم بعد ذلك، والقضاء فيهم بيدي دون غيرى، أقضى فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة، أو عاجل العذاب بالقتل والنقم، أو آجله بما أعددت لأهل الكفر بي من العذاب فى الآخرة" (٣).
قوله تعالى: ﴿أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٢٨] أي: " أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذبهم إن أصرّوا على الكفر فإنهم ظالمون يستحقون العذاب" (٤).
قال محمد بن إسحاق: " أو أتوب عليهم برحمتي، فإن شئتُ فعلتُ، أو أعذبهم بذنوبهم ﴿فإنهم ظالمون﴾، أي قد استحقوا ذلك بمعصيتهم إياي" (٥).
قال العز بن عبدالسلام: أي: "بل إلى الله - تعالى - التوبة عليهم، أو الانتقام منهم" (٦).
قال الثعلبي: " وقال بعضهم: (أو) بمعنى (حتى) يعني: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم" (٧).
أخرج البخاري (٨) والنسائي (٩) "من طريق معمر عن الزهري حدثني سالم -هو ابن عبد الله- ابن عمر عن أبيه سمع رسول الله ﷺ يقول: إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا" بعد ما يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ الآية"-صلى الله عليه وسلم-" (١٠).
وقال أحمد: " حدثنا هشيم نا حميد عن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه فقال: "كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ " فأنزل الله تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾ " (١١).
وعن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله ﷺ حين شُجَّ في جبهته وكسِرت رباعيته: لا يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم! فأوحى الله إليه: ﴿ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون﴾ " (١٢).
وعن الحسن: أن النبي ﷺ قال يوم أحُد: كيف يفلح قوم دمَّوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل! ! فنزلت: ﴿ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون﴾ " (١٣).
وقال قتادة: " ذكر لنا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله ﷺ يوم أُحد، وقد جُرح نبي الله ﷺ في وجهه وأصيبَ بعضُ رباعيته، فقال وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم! فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " (١٤).
الفوائد:
١ - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- لايملك شيئا من الأمر الكوني.
٢ - أن النبي-صلى الله عليه وسلم- مكلف يأمره الله تعالى وينهاه.
٣ - أن الله تعالى قد يتوب على أعتى الناس وأشدهم كفرا لعموم قوله: ﴿أو يتوب عليهم﴾.
٤ - أنه تعالى قد يعذب الكافرين عذابا ليس للمسلمين فيه يد، بل هو من عند الله وحده.
٥ - انه تعالى لايعذب إلا بذنب، لقوله: ﴿فإنهم ظالمون﴾، والظالم مستحق العذاب لأنه ينكل بالله، والله لايحب الظلم.
القرآن
﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)﴾ [آل عمران: ١٢٩]
التفسير:
ولله وحده ما في السموات وما في الأرض، يغفر لمن يشاء من عباده برحمته، ويعذب من يشاء بعدله. والله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [آل عمران: ١٢٩]، أي: ولله " ملك السماوات والأرض" (١٥).
قال السمرقندي: أي: " إن جميع الخلق في ملكه وعبيده" (١٦).
قال البيضاوي: يعني: " خلقا وملكا فله الأمر كله لا لك" (١٧).
قال ابن كثير: " أي: الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه" (١٨).
قال الطبري: أي: " ليس لك يا محمد، من الأمر شيء، ولله جميع ما بين أقطار السموات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها، دونك ودونهم، يحكم فيهم بما يشاء، ويقضي فيهم ما أحب" (١٩).
قال ابن عباس: " قال جبريل عليه السلام: يا محمد لله الخلق كله، والسموات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن، ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم" (٢٠).
قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٢٩]، " فيتوب على من أحب من خلقه العاصين، ثم يغفر له" (٢١).
قال مجاهد: " يغفر لمن يشاء الكثير من الذنوب" (٢٢).
وقال الضحاك: " يغفر لمن يشاء الذنب العظيم" (٢٣).
قوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾ [آل عمران: ١٢٩]، أي: " ويعاقب من شاء منهم على جرمه فينتقم منه" (٢٤)
(٢) تفسير الماتريدي: ٢/ ٤٧٣.
(٣) تفسير المراغي: ٤/ ٦٠.
(٤) صفوة التفاسير: ٢٠٨.
(٥) أخرجه الطبري (٧٨٠٤): ص ٧/ ١٩٥.
(٦) تفسير العز بن عبدالسلام: ١/ ٢٨٢.
(٧) تفسير الثعلبي: ٣/ ١٤٧.
(٨) في كتاب "المغازي والتفسير والاعتصام" كما في "التحفة" "٥/ ٣٩٤"، وانظر "الفتح "٨/ ٢٢٥ - ٢٢٦". زاد البخاري: "وعن حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله: كان رسول الله ﷺ يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام. فنزلت". [كتاب "المغازي"، باب غزوة أحد "الفتح" "٧/ ٣٦٥"].
(٩) في كتاب "الصلاة" باب لعن المنافقين في القنوت "٢/ ٢٠٣" وفيه: "يدعو على أناس من المنافقين" وفي "التفسير" "ص ٣٦" الرقم "٩٦" عزاه إليه في "التحفة" "٥/ ٣٩٤ - ٣٩٥". وأخرجه الواحدي من هذا الطريق، وفيه هذه الجملة انظر "ص ١١٧".
(١٠) العجاب: ٢/ ٧٤٧.
(١١) في "مسنده" "٣/ ٩٩" ورواه الواحدي "ص ١١٦" من طريق عبيدة بن حميد عن حميد.
(١٢) أخرجه الطبري (٧٨٠٨): ص ٧/ ١٩٦.
(١٣) أخرجه الطبري (٧٨٠٩): ص ٧/ ١٩٦ - ١٩٧.
(١٤) أخرجه الطبري (٧٨١١): ص ٧/ ١٩٧..
(١٥) صفوة التفاسير: ٢٠٨.
(١٦) تفسير السمرقندي: ١/ ٢٤٥.
(١٧) تفسير البيضاوي: ٢/ ٣٨.
(١٨) تفسير ابن كثير: ٢/ ١١٦.
(١٩) تفسير الطبري: ٧/ ٢٠٣.
(٢٠) أخرجه ابن أبي حاتم (٤١٣٢): ص ٣/ ٧٥٨.
(٢١) تفسير الطبري: ٧/ ٢٠٣.
(٢٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٤١٣٣): ص ٣/ ٧٥٨.
(٢٣) تفسير السمرقندي: ١/ ٢٤٥.
(٢٤) تفسير الطبري: ٧/ ٢٠٣.