وقال الزهري: وحدثني أبو سَلمة عن ابن عباس، أن أبا بكر خرج وعمر يُحَدِّث (٢) الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمرُ أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عُمَرَ، فقال أبو بكر: أما بعد، مَنْ كانَ يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حَيّ لا يموت، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ إلى قوله: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ قال: فوالله لكَأنّ الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها.
وأخبرني سعيد بن المُسَيَّب أن عُمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فَعقرتُ حتى ما تقلني رجلاي وحتى هَوَيتُ إلى الأرض" (١).
الفوائد:
١ - بيان أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- ليس ربّا فيدعي ولا إلها فيعبد، فهو -صلى الله عليه وسلم-بشر يلحقه الموت كما يحلق جميع الرسل.
٢ - أنه ينبغي الدليل بذكر النظائر لغرض الاقناع، لقوله: ﴿قد خلت من قبله الرسل﴾، فإن من سمع هذا يقول: مادام الرسل السابقون ماتوا، فيكون ذلك تسلية له.
٣ - إثبات ان محمدا-صلى الله عليه وسلم- خاتم الرسل، لقوله: ﴿قد خلت من قبله الرسل﴾، لأن "الـ" هنا للعموم ولم يقل: "رسل"، بل قال: "الرسل"، وإذا كان الرسل كلهم قد خلوا من قبله لزم من ذلك أن يكون هو-صلى الله عليه وسلم- آخرهم.
٤ - أن الارتداد عن الإسلام انقلاب على العقب، ومن تمسك بالاسلام فإنه التقدمي، لأن الاسلام يحث على التقدم لكل فضيلة.
٥ - أ، الله تعالى غنيّ عن طاعة الطائعين.
٦ - انتفاء الضرر عن الله تعالى، وأنه لن يضره شيء.
٧ - الحثّ على الشكر.
القرآن
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)﴾ [آل عمران: ١٤٥]
التفسير:
لن يموت أحد إلا بإذن الله وقدره وحتى يستوفي المدة التي قدرها الله له كتابًا مؤجَّلا. ومن يطلب بعمله عَرَض الدنيا، نعطه ما قسمناه له من رزق، ولا حظَّ له في الآخرة، ومن يطلب بعمله الجزاء من الله في الآخرة نمنحه ما طلبه، ونؤته جزاءه وافرًا مع ما لَه في الدنيا من رزق مقسوم، فهذا قد شَكَرَنا بطاعته وجهاده، وسنجزي الشاكرين خيرًا.
في سبب نزول الآية:
قال الثعلبي: " نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة" (٢).
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٤٥]، أي: " وما ينبغي لنفس أن تموت إلا بقدر الله" (٣)..
قال مقاتل: " يعنى: أن تقتل حتى يأذن الله فى موته" (٤).
قال محمد بن إسحاق: " أي: أن لمحمد أجلا هو بالغه، إذا أذن الله له في ذلك كان" (٥).
قال الطبري: يعني: " وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له، وأذن له بالموت، فحينئذ يموت. فأما قبل ذلك، فلن يموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال، وقد قيل إنّ معنى ذلك: وما كانت نفسٌ لتموت إلا بإذن الله" (٦).
قال المراغي: "أي: ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه تعالى ومشيئته" (٧).
قوله تعالى: ﴿كِتَابًا مُؤَجَّلًا﴾ [آل عمران: ١٤٥]، أي: " كتب الله ذلك كتابا ذا أجل" (٨).
قال مقاتل: " في اللوح المحفوظ" (٩).
قال الثعلبي: " يعني: أن لكل نفس أجلا هو بالغه ورزقا مستوفيه، لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره" (١٠).
قال الزجاج: " الأجل هو الوقت المعلوم" (١١).
قال عمر بن عبدالعزيز: " لا تموت نفس ولها في الدنيا عمر ساعة إلا بلغته" (١٢).
قال المراغي: " أي أثبته الله مقرونا بأجل معين لا يتغير، ومؤقتا بوقت لا يتقدم ولا يتأخر، فكثير من الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب، أو يتعرضون لعدوى الأمراض، أو يتصدون لأفاعيل الطبيعة، وهم مع ذلك لا يصابون بالأذى فالشجاع المقدام قد يسلم فى الحرب، ويقتل الجبان المتخلف ويفتك المرض بالشاب القوى، ويترك الضعيف الهزيل، وتغتال عوامل الأجواء الكهل المستوي وتتجاوز الشيخ الضعيف، فللأعمار آجال، وللآجال أقدار لا تخطوها، والأقدار هى السنن التي عليها تقوم نظم العالم وإن خفيت على بعض الناس، وإذا كان محيانا ومماتنا بإذن الله فلا محل للخوف والجبن، ولا عذر فى الوهن والضعف.
وفى الآية تحريض على الجهاد وتشجيع على لقاء العدو، فإنه إذا كان الأجل محتوما ومؤقتا بميقات، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله وإن خاض المعارك واقتحم المهالك فلا محل إذا للخوف والحذر- إلى ما فيها من الإشارة إلى كلاءة الله وحفظه لرسوله مع غلبة العدوّ له والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس، فلم يبق سبب من أسباب الهلاك إلا قد حصل، ولكن لما كان الله حافظا وناصرا له لم يضرّه شىء، وفيها إشارة إلى أن قومه قد قصّروا فى الذبّ عنه" (١٣).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥]، "أي: ومن قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها" (١٤).
قال مقاتل: " يعني الذين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة" (١٥).
قال محمد بن إسحاق: " أي: فمن كان منكم يريد الدنيا، ليست له رغبة في الآخرة، نؤته ما قسم له منها من رزق، ولا حظ له في الآخرة" (١٦).
قال الثعلبي: " يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله" (١٧).
قال ابن كثير: "أي: من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له، ولم يكن له في الآخرة من نصيب" (١٨).

(١) صحيح البخاري برقم (٤٤٥٢، ٤٤٥٣، ٤٤٥٤).
(٢) تفسير الثعلبي: ٣/ ١٧٩.
(٣) تفسير الثعلبي: ٣/ ١٧٨. [بتصرف].
(٤) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٠٥.
(٥) أخرجه الطبري (٧٩٥٤): ص ٧/ ٢٦٠.
(٦) تفسير الطبري: ٧/ ٢٦٠.
(٧) تفسير المراغي: ٤/ ٨٩.
(٨) معاني القرآن للزجاج: ١/ ٤٧٤.
(٩) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٠٥.
(١٠) تفسير الثعلبي: ٣/ ١٧٩.
(١١) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٠٥.
(١٢) أخرجه ابن أبي حاتم (٤٢٧٠): ص ٣/ ٧٧٩.
(١٣) تفسير المراغي: ٤/ ٨٩.
(١٤) تفسير المراغي: ٤/ ٩٠.
(١٥) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٠٥.
(١٦) أخرجه الطبري (٧٩٥٥): ص ٧/ ٢٦٢ - ٢٦٣.
(١٧) تفسير الثعلبي: ٣/ ١٧٩.
(١٨) تفسير ابن كثير: ٢/ ١٣٠.


الصفحة التالية
Icon