قال الطبري: أي: " من يرد منكم، أيها المؤمنون، بعمله جزاءً منه بعضَ أعراض الدنيا، دون ما عند الله من الكرامة لمن ابتغى بعمله ما عنده نعطه منها ما قُسم له فيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدها لمن أطاعه وطلب ما عنده في الآخرة" (١).
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٤٥]، أي: " ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها" (٢).
قال محمد بن إسحاق: " ومن يرد ثواب الآخرة نوته منها ما وعده، مع ما يُجرى عليه من رزقه في دنياه" (٣).
قال مقاتل: " الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير الأنصاري من بني عمرو حتى قتلوا" (٤).
قال ابن كثير: أي: "ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا" (٥).
قال الزجاج: " وليس في هذا دليل أنه يحرمه خير الدنيا، لأنه لم يقل: ومن يرد ثواب الآخرة
لم نؤته إلا منها، والله عز وجل ذو الفضل العظيم" (٦).
قال المراغي: " وفيها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد، فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي ﷺ بلزومه، وكأنه يقول لهم إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك، وما عليكم إلا أن تسلكوا سبيله، ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، بل يدعوكم إلى خير ترون حظا منه فى الدنيا، والمعوّل عليه ما فى الآخرة.
فأنتم بين أمرين: إما إرادة الدنيا، وإما إرادة الآخرة، ولكل منهما سنن تتبع، وطرق تسلك، وفى معنى الآية قوله تعالى: ﴿مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.
ومن هدى الإسلام أن يطلب المرء بعمله خيرى الدنيا والآخرة معا، ويقول: ﴿رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً﴾ والله يعطيه كل ما يطلب أو بعضه يحسب سنن الله وتدبيره لنظم الحياة.
وعلى الإنسان أن يعلم أن له طورين:
أحدهما: طور عاجل قصير، وهو طور الحياء الدنيا.
والثاني: طور آجل أبدىّ، وهو طور الحياة الآخرة.
وسعادته فى كل من الطورين مرتبطة بإرادته وما توجهه إليه من العمل، فالناس إنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد: فقوم يحاربون حبا فى الربح والكسب، أو ضراوة بالفتك والقتل، فإذا غلبوا أفسدوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل، وقوم يحاربون دفاعا عن الحق وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فهل يستوى الفريقان، وهما فى المقصد مفترقان؟
كذلك يطلب الرجل الربح والكسب أحيانا بكل وسيلة مستطاعة طلبا للذاته، والحصول على شهواته، فيغلو فى الطمع، ويمعن فى الحيل، ولا يبالى أمن الحرام أكل أم من الحلال؟ يأكل الربا أضعافا مضاعفة، فيجمع القناطير المقنطرة، وهو مع ذلك يمنع الماعون، ولا يحضّ على طعام المسكين، ولو سئل البذل فى المصالح العامة كان أشد الناس بخلا وأقبضهم كفا، بينا يطلب آخر الكسب طلبا للتجمل وحبا للكرامة فى قومه وعشيرته، فيقتصد فى الطلب، ويتحرى الربح الحلال، ويلتزم الصدق والأمانة، ويبتعد عن الفسوق والخيانة، وهو مع هذا ينفق مما أفاء الله به عليه، فيواسى البائسين، ويساعد المعوزين، وتكون له اليد الطّولى فى الأعمال النافعة لأمته، فيشيد لها المدارس والمعابد، والملاجئ والمستشفيات، فهل ينظر الناس إلى هذين نظرة متساوية، وهل هما فى

(١) تفسير الطبري: ٧/ ٢٦٢.
(٢) تفسير المراغي: ٤/ ٩٠.
(٣) أخرجه الطبري (٧٩٥٥): ص ٧/ ٢٦٣.
(٤) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٣٠٥.
(٥) تفسير ابن كثير: ٢/ ١٣٠.
(٦) معاني القرآن: ١/ ٤٧٥.


الصفحة التالية
Icon