بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أنّ خيلهم تقاتل، تنادوا فشَدُّوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم" (١).
وعن ابن عباس: "قوله: ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسُّونهم بإذنه﴾، فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال حتى نزل أحدًا، وخرج رسول الله ﷺ فأذَّن في الناس، فاجتمعوا، وأمَّر على الخيل الزبير بن العوام، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي. وأعطى رسول الله ﷺ اللواء رجلا من قريش يقال له: مصعب بن عمير. وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحسَّر، وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل. فبعث رسول الله ﷺ الزبير وقال: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك. وأمر بخيل أخرى، فكانوا من جانب آخر، فقال: لا تبرحوا حتى أوذنكم. وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزى، فأرسل النبي ﷺ إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه ومن معه، كما قال: ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تحُسُّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبُّون﴾، وإنّ الله وعد المؤمنين أن ينصرهم وأنه معهم" (٢).
وقال ابن إسحاق: " حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا - في قصة ذكرها عن أحد - ذكر أن كلهم قد حدَّث ببعضها، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث، فكان فيما ذكر في ذلك: أن رسول الله ﷺ نزل الشعب من أحُد في عُدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحُد، وقال: لا يقاتلنَّ أحدٌ، حتى نأمره بالقتال، وقد سرَّحت قريش الظهر (٣) والكُراع، في زروع كانت بالصَّمغة (٤) من قناة للمسلمين، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله ﷺ عن القتال: أترعى زروع بني قيلة (٥) ولما نُضارِب! وتعبَّأ رسول الله ﷺ للقتال وهو في سبعمئة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فرس قد جَنَبوها (٦)، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل. وأمرَّ رسول الله ﷺ على الرماة عبد الله بن جبير، أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ مُعلم بثياب بيض، والرماةُ خمسون رجلا وقال: انضح عنا (٧) الخيل بالنبل، لا يأتونا من خلفنا! إن كانت لنا أو علينا فأثبت مكانك، لا نؤتيَنَّ من قبلك، فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض (٨)، واقتتلوا، حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبى طالب، في رجال من المسلمين. فأنزل الله عز وجل نصره وصدقهم وعده، فحسُّوهم بالسيوف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمةَ لا شك فيها" (٩).
وقال الزبير: "والله لقد رأيتُني أنظر إلى خَدَم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمِّرات هوارب، ما دون إحداهن قليلٌ ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القومَ عنه يريدون النهب، وخلَّوا ظهورنا للخيل، فأتينا

(١) تفسير الطبري (٨٠٠٤): ص ٧/ ٢٨١ - ٢٨٢.
(٢) أخرجه الطبري (٨٠٠٧): ص ٧/ ٢٨٣.
(٣) الظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب. والكراع: اسم يجمع الخيل والسلاح، ويعني هنا الخيل.
(٤) الصمغة: أرض في ناحية أحد. وقناة واد يأتي من الطائف، حتى ينتهي إلى أصل قبور الشهداء بأحد.
(٥) بنو قيلة: هم الأوس والخزرج، الأنصار. وقيلة: أم قديمة لهم ينسبون إليها.
(٦) جنب الفرس والأسير يجنبه (بضم النون) جنبًا (بالتحريك) فهو مجنوب وجنيب، وخيل جنائب: إذا قادهما إلى جنبه. ويقال: خيل مجنبة بتشديد النون مثلها.
(٧) نضح عنه: ذب عنه، ورد عنه ونافح.
(٨) قال المحقق: " هذا اختصار مخل جدًا، فإن أبا جعفر لفق كلام ابن إسحاق، والذي رواه ابن هشام مخالف في ترتيبه لما جاء في خبر الطبري هنا. وذلك أنه من أول قوله: وأمر رسول الله ﷺ على الرماة... مقدم على قوله: وتعبأت قريش، وذلك في السيرة ٣: ٦٩، ٧١. أما قوله: فلما التقى الناس فإنه يأتي في السيرة في ص ٧٢، وسياق الجملة: فلما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها، وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويحرضنهم، وساق ما كان من أمرهن، ثم قال: قال ابن إسحاق: فاقتتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، أما قوله بعد ذلك: وحمزة بن عبد المطلب... ، فهو عطف علي وقاتل أبو دجانة، استخرجه الطبري من سياق سيرة ابن إسحاق ٣: ٧٧، لا من نصه. وقد تركت ما في التفسير على حاله، لأنه خطأ من أبي جعفر نفسه ولا شك. وأما قوله: ثم أنزل الله نصره... إلى آخر الأثر فهو في السيرة ٣: ٨٢". [تفسير الطبري: ٧/ ٢٨٤].
(٩) أخرجه الطبري (٨٠٠٨): ص ٧/ ٢٨٣ - ٢٨٤.


الصفحة التالية
Icon