قال الطبري: " إنما قصد بقوله: ﴿ولا يظلمون فتيلا﴾، الخبرَ عن أنه لا يظلم عبادَه أقلَّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر؟ وكان الوسخ الذي يخرج من بين إصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شق النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له، ولا قيمة، فواجبٌ أن يكون كل ذلك داخلا في معنى «الفتيل»، إلا أن يخرج شيئًا من ذلك ما يجب التسليم له، مما دل عليه ظاهر التنزيل" (١).
قال ابن السكيت: "القطمير: القشرة الرقيقة على النواة، والفتيل: ما كان في شق النواة، والنقير: النكتة في ظهر النواة" (٢).
قال الأزهري: "وهذه الأشياء كلها تضرب أمثالا للشيء التافه الحقير القدر، أي: لا يظلمون قدرها، قال النابغة (٣):
| يَجْمَعُ الْجَيْشَ ذَا الْأُلُوفِ وَيَغْزُو | ثُمَّ يَرْزَأُ الْعَدُوَّ فَتِيلًا" (٤) |
الفوائد:
١ - إن الأصل أن دمّ الآدمي معصوم وكان دم الكافر في أول الإسلام معصوماً بالعصمة الأصلية وبمنع الله المؤمنين من قتله قال تعالى: - ﴿ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم﴾، ولقوله - ﷺ -: - (لم أُؤْمر بالقتل بعد) وكدم القبطي الذي قتله موسى - عليه السلام - ودم الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة في زماننا فإن موسى - عليه السلام - عدّ ذلك ذنباً في الدنيا والآخرة ولأن بلوغ الدعوة استتابة عامة من كل كفر.
٢ - أنه من شرط الجهاد أن يكون بالمسلمين قوة يقوون بها على جهاد الكفار، أي: عندهم عدة واستعداد لجهاد الكفار، فإذا لم يكونوا على استعداد؛ كأن يكون فيهم ضعف والكفار أقوى منهم، فلو قاتل المسلمون الكفار لأبيدت خضراء المسلمين، فلا يجوز القتال في هذه الحالة؛ لأن هذا يلزم عليه مفسدة أكبر من المصلحة، وهي تسلط الكفار على المسلمين؛ ولهذا فالنبي ﷺ بقي في مكة ثلاثة عشر عاما مقتصرا على الدعوة إلى الله، والمسلمون يؤذون ويضايقون ولم يؤمر بالجهاد، بل الله أمرهم بالصبر وكف الأيدي حتى يأذن الله - جل وعلا - لهم بالجهاد: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: ٧٧].
٣ - أن القرآن يرشادنا إلى الإيمان الذي لا ينفك عن الجهاد، بل إن الجهاد تطبيق عملي له، ويحمل حملة عنيفة عن أولئك الذين يريدون أن يحققوا لأنفسهم، أو لأمتهم أمجادا رخيصة سهلة عن طريق رفع الأصوات وكثرة الادعاءات، إن هذا الصنف من الناس وجد في الأمة الإسلامية، ولكن كشفهم القرآن ليكونوا عبرة لمن يسلك سبيلهم كان هذا الصنف يتمنى أن يأذن الله له في القتال قبل مجيء أوانه فلما كتب عليهم القتال أصبحوا يخشون الأعداء أكثر مما يخشون الله.
٤ - وقد استدل البعض بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، على عدم رفع اليدين في الصلاة غير تكبيرة الإحرام (٦)، وهذا تحريف.
٥ - أن الخوف من الله تعالى جده وحده، فمن خاف غيره فإنما صرف إليه حقا من حقوق ربه (٧).
٦ - أن الدنيا فانية مفروغ منها والأمر أسرع من ذلك، وقد صور لنا الرسول - ﷺ - قلة متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة بمثال ضربه فقال: "والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه
(١) تفسير الطبري: ٨/ ٤٥٩ - ٤٦٠.
(٢) التفسير الوسيط للواحدي: ٢/ ٦١.
(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ١٧٠، والشعر والشعراء ٧٦ (ليدن)، ٧١ (شاكر)، وبلا نسبة في المقاييس ٤/ ٤٧٢، والمخصص ١٣/ ٢٥٤.
(٤) التفسير الوسيط للواحدي: ٢/ ٦١.
(٥) انظر: السبعة: ٢٣٥ الكشاف: ١/ ٥٣٦.
(٦) انظر: موسوعة الفرق المنسبة للإسلام: ٨/ ٥٠٠.
(٧) انظر: المنهاج في شعب الإيمان: ١/ ٥١٥.
(٢) التفسير الوسيط للواحدي: ٢/ ٦١.
(٣) البيت للنابغة الذبياني في ديوانه ١٧٠، والشعر والشعراء ٧٦ (ليدن)، ٧١ (شاكر)، وبلا نسبة في المقاييس ٤/ ٤٧٢، والمخصص ١٣/ ٢٥٤.
(٤) التفسير الوسيط للواحدي: ٢/ ٦١.
(٥) انظر: السبعة: ٢٣٥ الكشاف: ١/ ٥٣٦.
(٦) انظر: موسوعة الفرق المنسبة للإسلام: ٨/ ٥٠٠.
(٧) انظر: المنهاج في شعب الإيمان: ١/ ٥١٥.