هذه - وأشار بالسبابة - في اليم، فلينظر بم ترجع" (١). ما الذي تأخذه الإصبع إذا غمست في البحر الخضم، إنها لا تأخذ منه قطرة. هذا هو نسبة الدنيا إلى الآخرة.
٧ - أخبر الله - تعالى - أنه حرم الظلم على نفسه، فقال: ﴿ولا تظلمون فتيلا﴾ [النساء: ٧٧]، وقال: ﴿ولا يظلم ربك أحدا﴾ [الكهف: ٤٩] وقال: ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾ [فصلت: ٤٦]، كما قال على لسان رسوله - ﷺ -: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي» (٢).
وقد اتفق المسلمون على أن الله منزه عن الظلم، ولكن تنازعوا في معناه الذي يجب تنزيه الرب عنه على ثلاثة أقوال (٣):
الأول: قول المعتزلة، فقد ذهبوا إلى أن الظلم الذي ينزه عنه الخالق من جنس الظلم الذي ينهى عنه المخلوق، فشبهوا الله بخلقه، وأوجبوا عليه جنس ما يجب على المخلوق.
الثاني: قول الأشاعرة وطوائف من أهل الكلام وبعض أهل الحديث: إن الظلم من الله تعالى ممتنع لذاته، لأن الظلم -عندهم-: التصرف في ملك الغير، أو الخروج عن طاعة من تجب طاعته، وهذان ممتنعان في حق الله تعالى.
الثالث: قول كثير من أهل السنة وبعض أهل الكلام: إن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، فالظلم ممكن لذاته، يمتنع وقوعه من الرب تعالى ولا يفعله؛ لكمال عدله ورحمته وغناه، وعلمه بقبحه، ولإخباره أنه لا يفعله، فالله تعالى لا يضع الأشياء في غير مواضعها، كأن يبخس المحسن شيئًا من إحسانه، أو يحمل عليه من سيئات غيره، أو يعاقبه بلا موجب للعقاب، ونحو ذلك، وهذا القول هو الحق الذي دلت عليه النصوص واللغة. والله اعلم.
القرآن
﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨)﴾ [النساء: ٧٨]
التفسير:
أينما تكونوا يلحقكم الموت في أي مكان كنتم فيه عند حلول آجالكم، ولو كنتم في حصون منيعة بعيدة عن ساحة المعارك والقتال. وإن يحصل لهم ما يسرُّهم من متاع هذه الحياة، ينسبوا حصوله إلى الله تعالى، وإن يقع عليهم ما يكرهونه ينسبوه إلى الرسول محمد ﷺ جهالة وتشاؤمًا، وما علموا أن ذلك كله من عند الله وحده، بقضائه وقدره، فما بالهم لا يقاربون فَهْمَ أيِّ حديث تحدثهم به؟
في سبب نزول الآية قولان:
أحدهما: قال الواحدي: " قال ابن عباس في رواية أبي صالح: "لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم "أحد" قال المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأنزل الله تعالى هذه الآية" (٤).
والثاني: أخرج الطبري (٥)، وابن ابي حاتم (٦)، عن عن مجاهد قال: "كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة! ! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت، فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها

(١) رواه مسلم: (٢٨٥٨).
(٢) رواه مسلم (٢٥٧٧) كتاب البر والصلة، باب: تحريم الظلم، وأحمد في "المسند" ٥/ ١٦٠.
(٣) انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ٨/ ٥٠٥ - ٥١٠، ١٧/ ١٧٥ - ١٨٠، ١٨/ ١٣٧ - ١٥٦، و"مختصر الصواعق المرسلة" ص ١٨٩ - ٢٠٦، و"غاية المرام في علم الكلام" ص ٢٤٤، ٢٤٥، و"لسان العرب" (ظلم) ٥/ ٢٧٥٧.
(٤) أسباب النزول: ١٦٧. وأورده الحافظ في العجاب: ٢/ ٩١٩، من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. إسناده مختلق مصنوع.
(٥) انظر: تفسير الطبري (٩٩٥٨): ص ٨/ ٥٥١ - ٥٥٢.
(٦) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤٠): ص ٣/ ١٠٠ - ١٠٠٨.


الصفحة التالية
Icon