فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! وأرته الشق في بطنها وقد كنت أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال: فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. قال: فبنى لها برجًا بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنزلت هذه الآية: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ " (١).
وأما الأثر الثاني: فلا يصلح أن يكون قولا آخر، لأن السياق يأباه، وإنما هو كما سماه ابن كثير رحمه الله: "حكاية" (٢)، أي: عمن مضى. والله أعلم.
قوله تعالى: ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨]، "أي: في أي مكانٍ وجدتم فلا بدّ أن يدرككم الموت عند انتهاء الأجل ويفاجئكم ولو تحصنتم منه بالحصون المنيعة" (٣).
قال الزمخشري: أي: " أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، والبروج: الحصون" (٤).
وفي «البروج» ها هنا، أربعة أقوال:
أحدها: أنها القصور، وهو قول مجاهد (٥)، وقتادة (٦)، وابن جريج (٧). وهو قول الجمهور (٨).
والثاني: أنها قصور في السماء بأعيانها تسمى بهذا الاسم، وهو قول أبي العالية (٩)، والسدي (١٠)، والربيع (١١)، وأبي مالك (١٢).
والثالث: أنها البيوت التي في الحصون وهو قول بعض البصريين (١٣).
والرابع: أن قوله: ﴿بروج مشيدة﴾، معناه: " في قصور من حديد". حكاه النقاش عن ابن عباس (١٤). وضعفه ابن عطية (١٥).
قال ابن عطية: " فالأكثر والأصح أنه أراد البروج والحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل الله لهم بها" (١٦).
وفي معنى «المُشّيَّدَةِ»، أقوال:
أحدها: المجصصة، والشيد الجص، وهذا قول عكرمة (١٧)، وبعض البصريين (١٨).
والثاني: الحصينة. وهذا قول الضحاك (١٩)، وأبي مالك (٢٠).
والثالث: أن المُشّيَّدَ المطول في الارتفاع، يقال شاد الرجل بناءه وأشاده إذا رفعه، ومنه أَشدت بذِكِرْ الرجل إذا رَفَعْتَ منه، وهذا قول الزجاج (٢١).

(١) تفسير الطبري (٩٩٥٨): ص ٨/ ٥٥١ - ٥٥٢. وهو مرسل ضعيف.
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٦١.
(٣) صفوة التفاسير: ١/ ٢٦٧.
(٤) الكشاف: ١/ ٥٣٨.
(٥) انظر: تفسير الطبري (٩٩٥٨): ص ٨/ ٥٥٢ - ٥٥٣.
(٦) انظر: تفسير الطبري (٩٩٥٧): ص ٨/ ٥٥٢.
(٧) انظر: تفسير الطبري (٩٩٥٩): ص ٨/ ٥٥٣.
(٨) انظر: المحرر الوجيز: ٢/ ٨٠.
(٩) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤١): ص ٣/ ١٠٠٨.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (٩٩٦٠): ص ٨/ ٥٥٣.
(١١) انظر: تفسير الطبري (٩٩٦١): ص ٨/ ٥٥٣.
(١٢) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤١): ص ٣/ ١٠٠٨.
(١٣) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥٠٨.
(١٤) انظر: المحرر الوجيز: ٢/ ٨٠.
(١٥) انظر: المحرر الوجيز: ٢/ ٨١، وقال: " وهذا لا يعطيه اللفظ، وإنما البروج في القرآن إذا وردت مقترنة بذكر السماء بروج المنازل للقمر وغيره على ما سمتها العرب وعرفتها، وبرج معناه ظهر، ومنه البروج أي المطولة الظاهرة، ومنه تبرج المرأة".
(١٦) المحرر الوجيز: ٢/ ٨٠.
(١٧) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤٤): ص ٣/ ١٠٠٨.
(١٨) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥٠٩.
(١٩) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤٢): ص ٣/ ١٠٠٨.
(٢٠) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٤٢): ص ٣/ ١٠٠٨.
(٢١) انظر: معاني القرآن: ٢/ ٧٩.


الصفحة التالية
Icon