والثاني: يعني: اختلافاً في الأخبار عما يُسِرُّونَ، وهذا قول الزجاج (١).
قال الزجاج: " أي: لو كان ما يخبرون به مما بيتوا، وما يسرون ويوحى إلى النبي - ﷺ -.. لولا أنه من عند الله لما كان الإخبار به غير مختلف، لأن الغيب لا يعلمه إلا الله. وهذا من آيات النبي - ﷺ - البينة" (٢).
قال الواحدي: " وهذا القول معناه كالأول؛ لأنَّ تأويله: أنه لو كان من عند غير الله لكان ما فيه من الإخبار عن الغيب بعضه حقًا وبعضها باطلًا" (٣).
والثالث: من جهة بليغ ومرذول، يعني أنه لو كان من عند مخلوق لكان على قياس كلام العباد، بعضه بليغ حسن وبعضه مرذول فاسد، فلما كان جميع القرآن بليغًا عرف أنه من عند الله. وهذا قول بعض البصريين (٤).
والرابع: يعني: ولو كان هو من عند غير الله ﴿لوجدوا فيه﴾ أي في الإخبار عما غاب عنهم، ما كان وما يكون اختلافا كثيرا، يعني تفاوتا بينا. إذا الغيب لا يعلمه إلا الله فيعلم بذلك أنه كلام الله وأن محمدا رسول الله صادق. ذكره الثعلبي عن بعضهم (٥).
ومعنى الاختلاف في اللغة: "أن يذهب أحد الشيئيين خلاف ما ذهب إليه الآخر، والأقوال المختلفة أن يذهب بعضها إلى الخطأ وبعضها إلى الصواب، أو بعضها إلى الحسن البليغ وبعضها إلى المرذول القبيح" (٦).
قال الجصاص: " فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه: اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر، واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا; وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن، وهو إحدى دلالات إعجازه; لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت. والثالث: اختلاف التلاؤم، وهو أن يكون الجميع متلائما في الحسن، كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ. فقد تضمنت الآية الحض على الاستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به" (٧).
ولشيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- كلام جيد يوضح هذا المعنى ويؤكده، فمما قال حول ذلك: "الخلاف بين السلف في التفسير قليل، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذلك صنفان:
أحدهما: أن يُعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبة تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمَّى... كما قيل في اسم السيف: الصارم والمهند، وذلك مثل أسماء الله الحسنى وأسماء رسوله - ﷺ - وأسماء القرآن.
الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه.
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملًا للأمرين، إما لكونه مشتركًا في اللفظ كلفظ ﴿قسورة﴾ الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد. ولفظ ﴿عسعس﴾، الذي يراد به إقبال الليل وإدباره... " (٨).
الفوائد:
١ - قال الثعلبي: " وفي هذه الآية دليل على أن القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الأختلاف من كل الجهات ولو كان مخلوقا لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت" (٩).
٢ - كتاب بحجم القرآن يحتوي على أكثر من ستة آلا ف آية لا يوجد تعارض بين اثنتين منها مطلقا، إنه الإعجاز!

(١) انظر: معاني القرآن: ٢/ ٨٢.
(٢) معاني القرآن: ٢/ ٨٢.
(٣) التفسير البسيط: ٦/ ٦٣٠.
(٤) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥١٠.
(٥) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٠.
(٦) التفسير البسيط للواحدي: ٦/ ٦٣١.
(٧) أحكام القرآن: ٢/ ٢٦٩.
(٨) مجموع الفتاوى: ١٣/ ٣٣٣ - ٣٤٠، وانظر: البحر المحيط: ٣/ ٣٠٥.
(٩) تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٠.


الصفحة التالية
Icon