٣ - أنه لا اختلاف في القرآن وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به، قال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ [النساء: ٨٢] فحضهم على التدبر أولا، ثم أعقبه: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا﴾ [النساء: ٨٢].
٤ - ومن فوائد التدبر لكتاب الله: أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم بأنه كلام الله، لأنه يراه يصدق بعضه بعضا، ويوافق بعضه بعضا. فترى الحكم والقصة والإخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضا، فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور.
القرآن
﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (٨٣)﴾ [النساء: ٨٣]
التفسير:
وإذا جاء هؤلاء الذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم أمْرٌ يجب كتمانه متعلقًا بالأمن الذي يعود خيره على الإسلام والمسلمين، أو بالخوف الذي يلقي في قلوبهم عدم الاطمئنان، أفشوه وأذاعوا به في الناس، ولو ردَّ هؤلاء ما جاءهم إلى رسول الله ﷺ وإلى أهل العلم والفقه لَعَلِمَ حقيقة معناه أهل الاستنباط منهم. ولولا أنْ تَفَضَّلَ الله عليكم ورحمكم لاتبعتم الشيطان ووساوسه إلا قليلا منكم.
في سبب نزول الآية وجوه:
أحدها: أخرج مسلم (١) وابن أبي حاتم (٢)، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؛ قال: "لما اعتزل نبي الله - ﷺ - نساءه؛ قال: دخلت المسجد؛ فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله - ﷺ - نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب. فقال عمر: فقلت: لأعلمن ذلك اليوم. قال: فدخلت على عائشة، فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - ﷺ -؟ فقالت: مالي ومالك يا ابن الخطاب؟ ! عليك بعيبتك، قال: فدخلت على حفصة بنت عمر، فقلت لها: يا حفصة! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله - ﷺ -؟ والله لقد علمت أن رسول الله - ﷺ - لا يحبك، ولولا أنا؛ لطلقك رسول الله - ﷺ -؛ فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله - ﷺ -؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت؛ فإذا أنا برباح غلام رسول الله - ﷺ - قاعداً على أسكفة المشربة مدل رجليه على نقير من خشب، وهو جذع يرقى عليه رسول الله - ﷺ - وينحدر، فناديت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -؛ فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إليّ فلم يقل شيئاً، ثم قلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -؛ فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إليَّ فلم يقل شيئاً، ثم رفعت صوتي؛ فقلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله - ﷺ -؛ فإني أظن أن رسول الله - ﷺ - ظن أني جئت من أجل حفصة، والله! لئن أمرني رسول الله - ﷺ - بضرب عنقها؛ لأضربن عنقها، ورفعت صوتي. فأومأ إليّ أن ارقه. فدخلت على رسول الله - ﷺ - وهو مضطجع على حصير. فجلست فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثر في جنبه. فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - ﷺ - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظاً في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق؛ قال: فابتدرت عيناي، قال: "ما يبكيك يا ابن الخطاب؟ ! "، قلت: يا نبي الله! ومالي لا أبكي؟ وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله - ﷺ - وصفوته، وهذه خزانتك! فقال: "يا ابن الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟ "، قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله! ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن؛ فإن الله معك وملائكته وجبريل وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك. وقلما تكلمت -وأحمد الله- بكلام؛ إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية: آية التخيير: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ [التحريم: ٥] ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤]. وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي - ﷺ -،

(١) صحيح مسلم (١٤٧٩): ص ٢/ ١١٠٥ - ١١٠٨.
(٢) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٦٨٢): ص ٣/ ١٠١٤ مختصرا..


الصفحة التالية
Icon