فقلت: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: "لا"، قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله - ﷺ - نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: "نعم؛ إن شئت"، فلم أزل أحدثه؛ حتى تخسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك. وكان من أحسن الناس ثغراً. ثم نزل نبي الله - ﷺ - ونزلت، فنزلت أتشبت بالجذع ونزل رسول الله - ﷺ - كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده، فقلت: يا رسول الله! إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين، قال: "إن الشهر يكون تسعاً وعشرين"، فقمت على باب المسجد؛ فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله نساءه، ونزلت هذه الآية: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾؛ فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر، وأنزل الله -عزّ وجلّ- آية التخيير" (١).
والثاني: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج: " ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به﴾ فهذا في الأخبار، إذا غزت السرية من المسلمين، تخبر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا، فأفشوه بينهم، من غير أن يكون النبي ﷺ هو يخبرهم به" (٢).
والثالث: أنها نزلت في ضعفة المسلمين. وهذا قول الحسن (٣)، والزجاج (٤).
قال الزجاج: " وكان إذا علم النبي - ﷺ - أنه ظاهر على قوم أمن منهم، أو أعلم تجمع قوم يخاف من جمع مثلهم، أذاع المنافقون ذلك ليحذر من يحذر من الكفار، ويقوى قلب من ينبغي أن يقوى قلبه لما أذاعوا، وكان ضعفة المسلمين يشيعون ذلك معهم من غير علم بالضرر في ذلك" (٥).
والرابع: أنها نزلت في المنافقين. وهو قول ابن زيد (٦)، والضحاك (٧)، وابن عباس في رواية الضحاك (٨)، واختاره الثعلبي (٩) والبغوي (١٠).
نقل الثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس: "في قوله: ﴿وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به﴾: إن المنافقين كانوا إذا أمروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا عنها، وإن أفضى الرسول إليهم سرا أذاعوا به إلى العدو ليلا بتكتم، فأنزل الله تعالى ردا عليهم" (١١).
قال السيوطي: " نزل في جماعة من المنافقين أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك فتضعف قلوب المؤمنين ويتأذى النبي" (١٢).
والظاهر-والله اعلم- "أن إشاعة الأخبار وترويج الإشاعات إما أن تكون من المنافقين أعداء الأمة بقصد سيء، وإما أن تكون من ضعاف الإيمان وعوام الناس الجهلة بقصد حسن، وربما كان موقف عمر أحد أسباب النزول" (١٣).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: ٨٣]، "أي: إِذا جاء المنافقين خبرٌ من الأخبار عن المؤمنين بالظفر والغنيمة أو النكبة والهزيمة، أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته" (١٤).
قال الطبري: أي: "وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي يقول رسول الله ﷺ خبرٌ عن سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم، أو تخوّفهم من عدوهم بإصابة عدوهم
(٢) تفسير ابن المنذر (٢٠٤٥): ص ٢/ ٨٠٥.
(٣) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥١١.
(٤) انظر: معاني القرآن: ٢/ ٨٣.
(٥) معاني القرآن: ٢/ ٨٣.
(٦) انظر: تفسير الطبري (٩٩٩٤): ص ٨/ ٥٧٠.
(٧) انظر: تفسير ابن أبي حاتم (٥٦٨٤): ص ٣/ ١٠١٤.
(٨) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥١.
(٩) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٠.
(١٠) انظر: تفسير البغوي: ٢/ ٢٥٥.
(١١) تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥١.
(١٢) تفسير الجلالين: ١١٥.
(١٣) التفسير المنير: ٥/ ١٧٥.
(١٤) صفوة التفاسير: ٢٦٨.