فاحتجوا بأن ما علم بالاستنباط فليس الأكثر يعرفه، إنما يستنبط القليل، لأن الفضائل والاستنباط، والاستخراج في القليل من الناس، فييكون الاستثناء من «أذاعوا به إلا قليلا» أجود (١).
قال الزجاج: " وهذا في هذا الموضع غلط من النحويين، لأن هذا الاستنباط ليس بشيء يستخرج بنظر وتفكر، إنما هو استنباط خبر، فالأكثر يعرف الخبر، إذا خبر به، وإنما القليل المبالغ في البلادة لا يعلم ما يخبر به والقول الأول مع هذين القولين جائزة كلها، لأن القرآن قبل أن ينزل والنبي قبل أن يبعث قد كان في الناس القليل ممن لم يشاهد القرآن ولا النبي - ﷺ – مؤمنا، وقد يجوز أن يقول القائل إن من كان قبل هذا مؤمنا فبفضل الله وبرحمته آمن، فالفضل والرحمة لا يخلو منهما من نال ثواب الله جل وعز إلا أن المقصود به في هذا الموضع النبي - ﷺ - والقرآن " (٢).
الفوائد:
١ - في هذه الآية تأديب لمن يحدث بكل ما يسمع، وكفى به كذبا، وخصوصا عن مثل السرايا والمناصبين الأعداء والمقيمين في نحر العدو، وما أعظم المفسدة في لهج العامة بكل ما يسمعون من أخبارهم، خيرا أو غيره (٣).
٢ - وفي هذه الآية دليل ممن يحبون القول بالاجتهاد عند عدم النص.
٣ - ومنها: أن العلم محيط بالاستنباط، ليس تلاوة. يؤخذ من قوله: ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾، وإذا كان إدراكه بالاستنباط، فقد دل بذلك على أن من العلم ما يدرك بالتلاوة والرواية وهو النص، ومنه ما يدرك منه ومن المعنى، وحقيقة الاعتبار والاستنباط من القياس للحكم بالمعاني المودعة في النصوص غير الحكم بالنصوص (٤).
القرآن
﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (٨٤)﴾ [النساء: ٨٤]
التفسير:
فجاهد -أيها النبي- في سبيل الله لإعلاء كلمته، لا تلزم فعل غيرك ولا تؤاخذ به، وحُضَّ المؤمنين على القتال والجهاد، ورغِّبهم فيه، لعل الله يمنع بك وبهم بأس الكافرين وشدتهم. والله تعالى أشد قوة وأعظم عقوبة للكافرين.
في سبب نزول الآية:
قال الثعلبي: " وذلك أن رسول الله ﷺ لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أحد وكان من هربهم ما كان، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله ﷺ موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس: اخرجوا إلى العدو، فكرهوا ذلك كراهة شديدة أو بعضهم، فأنزل الله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ " (٥).
قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ [النساء: ٨٤]، " أي: فقاتل يا محمد لإِعلاء كلمة الله ولو وحدك" (٦).
قال الثعلبي: " أي: لا تدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك" (٧).
قال الواحدي: " أَيْ: إلاَّ فعلَ نفسك على معنى: أنَّه لا ضرر عليك في فعل غيرك فلا تهتمَّ بتخلُّف مَنْ يتخلَّف عن الجهاد" (٨).
قال الزجاج: " أمره الله بالقتال ولو أنه قاتل وحده، لأنه قد ضمن له النصر" (٩).

(١) انظر: معاني القرآن: ٢/ ٨٤.
(٢) معاني القرآن: ٢/ ٨٤.
(٣) انظر: الكشاف: ١/ ٥٤٠، الهامش (٢)..
(٤) انظر: تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥١ - ٣٥٢.
(٥) تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٢، وانظر: الكشاف: ١/ ٥٤٢.
(٦) صفوة التفاسير: ٢٦٨.
(٧) فسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٢.
(٨) الوجيز: ٢٧٨.
(٩) معاني القرآن: ٢/ ٨٥.


الصفحة التالية
Icon