وقد روي عن سلمان الفارسي قال: «جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله: " وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها "، فرددناها عليك» (١).
قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٨٦]، أي: " إن الله تعالى كان على كل شيء مجازيًا" (٢).
قال الثعلبي: " أي: حاسبا مجازيا" (٣).
قال الطبري: أي: " إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه" (٤).
قال الزجاج: " أي: يعطي كل شي من العلم والحفظ والجزاء مقدار ما يحسبه، أي: يكفيه، تقول حسبك بهذا أي اكتف بهذا، وقوله تعالى: ﴿عَطَاءً حِسَابًا﴾ [النبأ: ٣٦]، أي كافيا، وإنما سمي الحساب في المعاملات حسابا لأنه يعلم ما فيه كفاية ليس فيها زيادة على المقدار ولا نقصان" (٥).
وفي قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا﴾ [النساء: ٨٦]، وجوه:
أحدها: يعني حفيظاً، وهو قول مجاهد (٦).
والثاني: محاسباً على العمل للجزاء عليه، وهو قول أبي عبيدة (٧)، وبعض المتكلمين (٨).
والثالث: كافياً، وهو قول ابي عبيدة (٩)، والبلخي (١٠).
والرابع: يعني: شهيدا. وهذا قول سعيد (١١).
والراجح-والله أعلم- هو قول مجاهد، لأن أصل "الحسيب" في هذا الموضع، " فعيل " من "الحساب" الذي هو في معنى الإحصاء، يقال منه: حاسبت فلانًا على كذا وكذا، وهو حسيبه، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه (١٢).
الفوائد:
١ - أنه من سلم فإنما يتأدب بأدب الله تعالى، قال تعالى: ﴿وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها﴾، فأمر أن يقال التحيي بأحسن من تحية.
وليس معنى ردوها، إسقاطها عن نفسه، وإعادتها إليه كمن يهدى إليه شيء فلا يقبله ويرده. وإنما معناه أن يدعوا له مثل ما دعا، فيقول: وعليكم السلام. وهذا في الرد على المؤمنين (١٣).
٢ - أن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾، ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا على النبي-صلى الله عليه وسلم-، يقول لهم: «وعليكم». وأمر أمته بذلك (١٤).
وإنما قال: «عليكم» لأنهم يقولون السام، والسام: الموت، فيقول: «عليكم». قال صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا». ولما قالت عائشة: وعليكم السام واللعنة. قال: "مهلاً يا

(١) أخرجه الطبري (١٠٤٤): ص ٨/ ٥٨٩.
(٢) التفسير الميسر: ٩١.
(٣) تفسير الثعلبي: ٣/ ٣٥٤.
(٤) تفسير الطبري: ٨/ ٥٩١.
(٥) معاني القرآن: ٢/ ٨٧.
(٦) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٤٧): ص ٨/ ٥٩١.
(٧) انظر: مجاز القرآن ١/ ١٣٥.
(٨) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥١٤.
(٩) انظر: تفسير ابن المنذر (١٠٨٠): ص ٢/ ٨١٨.
(١٠) انظر: النكت والعيون: ١/ ٥١٤.
(١١) انظر: تفسير ابن ابي حاتم (٥٧٣٣): ص ٣/ ١٠٢٢.
(١٢) انظر: تفسير الطبري: ٨/ ٥٩١ - ٥٩٢.
(١٣) انظر: المنهاج في شعب الإيمان: ٣/ ٣٢٦.
(١٤) أخرجه البخاري (٦٢٥٧، ٦٩٢٨) ومسلم (٢١٦٤) من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه البخاري (٦٢٥٨، ٦٩٢٦) ومسلم (٢١٦٣) من حديث أنى بن مالك.


الصفحة التالية
Icon