روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-؛ "قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ﴾؛ وذلك أن قوماً كانوا بمكة قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام؛ فليس علينا منهم بأس، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة؛ قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء، فاقتلوهم؛ فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم، وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله -أو كما قالوا- أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك؟ ! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه الصلاة والسلام عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء؛ فنزلت: ﴿فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ الله﴾ " (١).
والرابع: أنها نزلت في قوم من أهل المدينة أرادوا الخروج عنها نفاقاً، وهذا قول السدي (٢)، وروي عن عبدالرحمن بن عوف نحو ذلك (٣).
قال السدي: " كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها، فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى نتماثل ثم نرجع، فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله منافقون! وددنا أن رسول الله ﷺ أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة فاتّخموها، فخرجوا إلى الظهر يتنزهون، فإذا بَرَؤوا رجعوا. فقال الله: ﴿فما لكم في المنافقين فئتينء، يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين {والله أركسهم بما كسبوا﴾ " (٤).
وفي السياق نفسه قال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه-: " أن قوما من العرب أتوا رسول الله ﷺ المدينة، فأسلموا، وأصابهم وباء بالمدينة، حماها، فأركسوا، فخرجوا من المدينة، فاستقبلهم نفر من أصحابه، يعني من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم: ما لكم رجعتم؟ قالوا: أصابنا وباء المدينة، فاجتوينا المدينة، فقالوا: أما لكم في رسول الله ﷺ أسوة؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، هم مسلمون، فأنزل الله، عز وجل: ﴿فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾، الآية " (٥).
والخامس: أنها نزلت في قوم من أهل الإفك، وهذا قول ابن سعد بن معاذ (٦)، وابن زيد (٧).
عن ابن سعد بن معاذ؛ قال: "خطب رسول الله - ﷺ - الناس، فقال: "مَنَ لي ممن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني؟ "، فقال سعد بن معاذ: إن كان من الأوس؛ قتلناه، وإن كان من إخواننا من الخزرج؛ أمرتنا فأطعناك؛ فقام سعد بن عبادة، فقال: ما بك يا ابن معاذ؟ ! طاعة رسول الله - ﷺ -، ولقد تكلمت ما هو منك؛ فقام أُسيد بن حُضير، فقال: إنك يا ابن عبادة! منافق تحب المنافقين؛ فقام محمد بن مسلمة، فقال: اسكتوا أيها الناس؛ فإن فينا رسول الله - ﷺ -، وهو يأمرنا فننفِّذ أمره؛ فأنزل الله -عزّ وجلّ-: ﴿فَمَا لَكُمْ في الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا﴾ " (٨).

(١). أخرجه الطبري في تفسيره (١٠٠٥٤): ص ٩/ ١٠ - ١١، وابن أبي حاتم في تفسيره (٥٧٤١) ص: ٣/ ١٠٢٣. وسنده ضعيف جداً؛ مسلسل بالعوفيين الضعفاء.
(٢) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٥٨): ص ٩/ ١ - ١٣.
(٣) انظر: مسند الإمام أحمد (١٦٦٧): ص ١/ ١٩٢.
(٤). أخرجه الطبري (١٠٠٥٨): ص ٨/ ١٢ - ١٣، وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف أسباط.
(٥) اخرجه أحمد (١٦٦٧): ص ١/ ١٩٢. وسنده ضعيف؛ لأن فيه علتان:
الأولى: ابن إسحاق مدلس، وقد عنعنه.
الثانية: أبو سلمة لم يسمع من أبيه؛ كما صرح بذلك الأئمة؛ كما في "المراسيل" (ص ٩١)، و"التهذيب" (١٠/ ٤٣٨، ٤٣٩، ١٢/ ١١٧).
قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/ ٧): "رواه أحمد؛ وفيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وأبو سلمة لم يسمع من أبيه".
وقال السيوطي في "الدر المنثور": ٢/ ٦١٠: "وأخرجه أحمد بسند فيه انقطاع".
(٦) انظر: سنن سعيد بن منصور (٦٦٣): ص ٤/ ١٣١٣، ١٣١٤، وتفسير ابن أبي حاتم (٥٧٤٠): ص ٣/ ١٠٢٣.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٥٩) / (١٠٠٦٠): ص ٨/ ١٣.
(٨) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (٦٦٣): ص ٤/ ١٣١٣، ١٣١٤، وابن أبي حاتم في "تفسيره (٥٧٤٠): ص ٣/ ١٠٢٣، كلاهما من طريق الدراوردي عن زيد بن أسلم عن ابن سعد بن معاذ به، وسنده ضعيف؛ للانقطاع بين زيد بن أسلم وابن سعد هذا، وزيد هذا كان يرسل ولم يصرح بالتحديث، ولم ينص أحد ممن كتب في الرجال أنه روى عن ابن سعد هذا.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/ ٦٠٩)، وزاد نسبته لابن المنذر.


الصفحة التالية
Icon