والثاني: تهدوهم إلى الثواب بمدحهم والله قد أَضَلَّهم بذمهم.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٨٨]، أي: " ومن خذله الله عن دينه، واتباع ما أمره به، فلا طريق له إلى الهدى" (١).
قال البغوي: "أي: ومن يضلل الله عن الهدى، فلن تجد له طريقا إلى الحق" (٢).
قال الواحدي: " أَيْ: ديناً وطريقاً إلى الحجَّة" (٣).
قال ابن عطية: "ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا إلى إرشاده" (٤).
أي ومن تقضى سننه فى خلقه أن يكون ضالا عن طريق الحق فلن تجد له سبيلا يصل بسلوكها إليه، فإن للحق سبيلا واحدة هى صراط الفطرة المستقيم، وللباطل سبلا كثيرة عن يمين سبيل الحق وعن شمالها، كل من سلك منها سبيلا بعد عن سبيل الحق بقدر إيغاله فى السبيل التي سلكها كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: ١٥٣]، وقد أوضح النبي ﷺ معنى الآية بالخطوط الحسية، فخط فى الأرض خطا وجعله مثالا لسبيل الله، وخط على جانبيه خطوطا لسبل الشيطان (٥)، وهذه الخطوط المستقيمة لا تلتقى مع الخط الأول بحال، وسبيل الفطرة تقتضى أن يعرض الإنسان جميع أعماله على سنن العقل ويتبع ما يظهر له أنه الحق الذي فيه منفعته عاجلا وآجلا، وفيه كماله الإنسانى، وأكثر ما يصده عن هذه السبيل التقليد والغرور وظنه أنه ليس هناك ما هو أكمل مما هو فيه، وبهذا يقطع على نفسه طريق العقل والنظر فى النفع والضر والحق والباطل، وشبهته فى ترك صراط الفطرة أن عقله قاصر عن التمييز بين الحق والباطل والخير والشر، فعليه أن يتبع ما وجد عليه الآباء والأجداد من زعماء عصره ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" (٦).
قال ابن حزم وابن البارزي: " قوله تعالى: ﴿فما لكم في المنافقين فئتين﴾ [النساء: ٨٨]، نسخها آية السيف" (٧).
الفوائد:
١ - تحريم موالاة المنافقين، إنكار الله على المؤمنين بسبب اختلافهم في المنافقين.
٢ - أن من أضله الله تعالى لا سبيل له إلى الهدى وأن الضلال وقع مع الإضلال من الله تعالى للكافر والفاسق.
٣ - أن القلوب لها أقفال ومفاتيح أعظم من أقفال ومفاتيح أي باب، فإذا كان الله تعالى طبع على قلب فلان فلا يمكن لجميع الأنبياء والمرسلين مجتمعين أن يفتحوا هذا القلب، ومهمة الأديان والأنبياء والمرسلين هي تبليغ دعوة الحق إلى الخلق فقط، أي: إرشادهم إلى الله، والذي يملك الهداية والضلال هو الله عز وجل.
القرآن
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (٨٩)﴾ [النساء: ٨٩]
التفسير:
تمنَّى المنافقون لكم -أيها المؤمنون-، لو تنكرون حقيقة ما آمنت به قلوبكم، مثلما أنكروه بقلوبهم، فتكونون معهم في الإنكار سواء، فلا تتخذوا منهم أصفياء لكم، حتى يهاجروا في سبيل الله، برهانًا على صدق إيمانهم، فإن أعرضوا عما دعوا إليه، فخذوهم أينما كانوا واقتلوهم، ولا تتخذوا منهم وليّاً من دون الله ولا نصيرًا تستنصرونه به.
سبب النزول:
(٢) تفسير البغوي: ١/ ٦٧٣.
(٣) الوجيز: ٢٧٩.
(٤) المحرر الوجيز: ٢/ ٨٩.
(٥) عن جابر قال: " كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطا هكذا أمامه، فقال: هذا سبيل الله، عز وجل، وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، قال: هذه سبيل الشيطان، ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ". [الأنعام: ١٥٣]. أخرجه احمد (١٥٣٥١): ص ٣/ ٣٩٧، وعبد بن حميد (١١٤١)، وابن ماجة (١١).
(٦) تفسير المراغي: ٥/ ١١٥ - ١١٦.
(٧) الناسخ والمنسوخ لابن حزم: ٣٥، وناسخ القرآن العزيز ومنسوخه لابن البارزي: ٢٩.