الآخرة، وإذا كان كذلك كانت العداوة الحاصلة بسببه أعظم أنواع العداوة، وإذا كان كذلك امتنع طلب المحبة والولاية في الموضع الذي يكون أعظم موجبات العداوة حاصلا فيه (١).
القرآن
﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (٩٠)﴾ [النساء: ٩٠]
التفسير:
لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم، وكذلك الذين أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم، كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم، فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم، فلا تقاتلوهم، ولو شاء الله تعالى لسلَّطهم عليكم، فلقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى صرفهم عنكم بفضله وقدرته، فإن تركوكم فلم يقاتلوكم، وانقادوا اليكم مستسلمين، فليس لكم عليهم من طريق لقتالهم.
في سبب نزول الآية قولان:
احدهما: قال ابن عباس، وعكرمة (٢): " نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر بن عبد مناف" (٣).
والثاني: قال الحسن: "فالذين حصرت صدور، هم بنو مدلج، فمن وصل إلى بني مدلج من غيرهم كان في مثل عهدهم" (٤).
قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ [النساء: ٩٠]، أي: " لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم" (٥).
قال أبو عبيدة: " يقول: فإذا كانوا من أولئك القوم الذين بينكم وبينهم ميثاق فلا تقتلوهم" (٦).
قال السدي: " يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة" (٧).
قال ابن زيد: " يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء" (٨).
قال ابن كثير: " أي: إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة، فاجعلوا حكمهم كحكمهم" (٩).
قال ابن ابي زمنين: " يعني: إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق، ومعني «اتصل»: انتسب" (١٠).
قال الطبري: أي: " فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم" (١١).
قال عكرمة: " قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف" (١٢).
قال الزمخشري: " والقوم هم الأسلميون، كان بينهم وبين رسول الله ﷺ عهد، وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمى على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقيل: القوم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح" (١٣).
وقال بعض اهل اللغة (١٤): "أن معنى قوله: ﴿إلا الذين يصلون إلى قوم﴾، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم: اتّصل الرجل، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم (١٥):
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ:
| أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ! | وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ! |
قال الطبري: " ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله ﷺ لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله ﷺ مشركي قريش بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه" (١٧).
قوله تعالى: ﴿أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ﴾ [النساء: ٩٠]، أي: " وكذلك الذين أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم، كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم" (١٨).
قال السدي: "يقول: رجعوا فدخلوا فيكم، ﴿حصرت صدورهم﴾، يقول: ضاقت صدورهم ﴿أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم﴾ " (١٩).
قال مجاهد: " يريدون: هلال بن عويمر وهو الذي حصر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يقاتل قومه" (٢٠).
قال الحسن: " فالذين حصرت صدُورُهم: بني مدلج، فمن وصل إلى بني مدلج من غيرهم؛ كان في مثل عهدهم" (٢١).
قال قتادة: " ﴿حصرت صدورهم﴾، أي: كارهة صدورهم" (٢٢).
قال ابن كثير: " هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي: ضيقة صدورهم مُبْغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم، بل هم لا لكم ولا عليكم" (٢٣).
قال الطبري: " والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام: قد حَصِرَ، ومنه: «الحَصَرُ»، في القراءة" (٢٤).
(٢) اخرجه الطبري (١٠٠٧٠): ص ٩/ ١٩.
(٣) اخرجه ابن ابي حاتم (٥٧٥٧): ص ٣/ ١٠٢٧
(٤) مصنف ابن أبي شيبة (٣٦٦١٢) ص: ٧/ ٢٤٤، وانظر: النكت والعيون: ١/ ٥١٤.
(٥) التفسير الميسر: ٩٢.
(٦) مجاز القرآن: ١/ ١٣٦.
(٧) أخرجه الطبري (١٠٠٦٩): ص ٩/ ١٩.
(٨) أخرجه الطبري (١٠٠٧٠): ص ٩/ ١٩.
(٩) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٧٢.
(١٠) تفسير ابن أبي زمنين: ١/ ٣٩٤.
(١١) تفسير الطبري: ٩/ ١٩.
(١٢) أخرجه الطبري (١٠٠٧١): ص ٩/ ١٩.
(١٣) الكشاف: ١/ ٥٤٧.
(١٤) انظر: مجاز القرآن: ١/ ١٣٦، وتفسير ابن ابي زمنين: ١/ ٣٩٤
(١٥) ديوانه: ٥٩، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٣٦ والناسخ والمنسوخ: ١٠٩ واللسان (وصل)، وغيرهما. وفي اللسان " لبكر بن وائل "، وفسرها " اتصلت ": انتسبت. وفسرها شارح شعر الأعشى: إذا دعت، يعني دعت بدعوى الجاهلية، وهو الاعتزاء. وهذا البيت آخر بيت في قصيدة الأعشى تلك. يقول: تدعى إليهم وتنتسب، وهي من إمائهم اللواتي سبين وقد رغمت أنوفهن وأنوف رجالهن الذي كانوا يدافعون عنهن، ثم انهزموا عنهن وتركوهن للسباء.
(١٦) تفسير الطبري: ٩/ ١٩، وانظر: مجاز القرآن: ١/ ١٣٦.
(١٧) تفسير الطبري: ٩/ ٢٠.
(١٨) التفسير الميسر: ٩٢.
(١٩) أخرجه الطبري (١٠٠٧٢): ص ٩/ ٢١.
(٢٠) أخرجه ابن ابي حاتم (٥٧٦٠) ص ٣/ ١٠٢٨.
(٢١) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (١٤/ ٣٣١، ٣٣٢ رقم ١٨٤٦١)، وابن أبي حاتم في "تفسيره: (٥٧٥٠): ص ٣/ ١٠٢٦، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده": (٦٧٨): ص ٢/ ٦٩٢، ٦٩٣، "بغية الباحث"، وابن مردويه في "تفسيره"؛ كما في "تفسير القرآن العظيم" (١/ ٥٤٦) جميعهم من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن: أن سراقة.. وذكره.
سنده ضعيف؛ فيه علي بن زيد بن جدعان؛ ضعيف.
(٢٢) أخرجه ابن ابي حاتم (٥٧٦٢) ص ٣/ ١٠٢٨.
(٢٣) تفسير ابن كثير: ١/ ٣٧٢.
(٢٤) تفسير الطبري: ٩/ ٢١، وانظر: مجاز القرآن لأبي عبيدة ١/ ١٣٦، ومعاني القرآن للفراء ١/ ٢٨٢.