وعن قتادة: " ﴿إِلاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾ (١)، الآيَةَ، قَالَ: نُسِخَ ذلك في براءة، وَنُبِذَ إِلَى كُلِّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ، وأمر الله نبيه أَنْ يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ (٢) الآية" (٣).
واخرج الطبري عن عن عكرمة والحسن قالا قال: " ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ﴾، إلى قوله: ﴿وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾، وقال في «الممتحنة»: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، وقال فيها: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ﴾ إلى ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سورة الممتحنة: ٨، ٩]، فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال: ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ﴾ [سورة التوبة: ١، ٢]. فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: ﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾، ثم نسخ واستثنى فقال: رفَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ [سورة التوبة: ٥، ٦] " (٤).
والثاني: انهما محكمة. وإنما نزلت في قوم مخصوصين، وهم بنو خزيمة وبنو مدلج، عاقدوا حلفاء المسلمين فنهي عن قتلهم، ونزلت آية السيف بعد إسلام الذين ذكرناهم. ذكره عبدالقاهر البغدادي عن بعضهم (٥).
الفوائد:
١ - أن الله أوجب مسالمة من يقف من المسلمين موقف الحياد، فلا يحاربهم، لا يعين عليهم محاربًا.
٢ - أن أصل علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم، والآية تدل على الأمر بقبول السلم من الكفار إذا جنحوا إليه، وقد نهى النبي ﷺ عن الرغبة في الحرب وتمني لقاء العدو فقال: " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية" (٦).
القرآن
﴿سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (٩١)﴾ [النساء: ٩١]
التفسير:
ستجدون قومًا آخرين من المنافقين يودون الاطمئنان على أنفسهم من جانبكم، فيظهرون لكم الإيمان، ويودون الاطمئنان على أنفسهم من جانب قومهم الكافرين، فيظهرون لهم الكفر، كلما أعيدوا إلى موطن الكفر والكافرين، وقعوا في أسوأ حال. فهؤلاء إن لم ينصرفوا عنكم، ويقدموا إليكم الاستسلام التام، ويمنعوا أنفسهم عن قتالكم فخذوهم بقوة واقتلوهم أينما كانوا، وأولئك الذين بلغوا في هذا المسلك السيِّئ حدّاً يميزهم عمَّن عداهم، فهم الذين جعلنا لكم الحجة البينة على قتلهم وأسرهم.
في سبب نزول الآية أقوال:
أحدها: أنهم أناس كانوا من أهل مكة أسلموا - على ما وصفهم الله به من التقيَّة - وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم، يقول الله: ﴿كلما ردُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها﴾، ، يعني كلما دعاهم قومهم إلى الشرك بالله، ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء. وهذا قول ابن عباس (٧)، ومجاهد (٨).
(٢) [سورة التوبة: ٥].
(٣) الناسخ والمنسوخ لقتادة: ٤٠، وأخرجه الطبري في تفسيره (١٠٠٧٥)، (١٠٠٧٦): ص ٩/ ٢٥ - ٢٦، من طريقين عن قتادة، كما أخرجه النحاس في ناسخه (١٩٥) عنه وعن مجاهد، وذكره مكي بن أبي طالب في ناسخه ص: ١٩٥، عن قتادة بدون إسناد، وانظر: ابن حزم ١٢٧، وابن سلامة ٣٨، وبن الجوزي ٢/ ٣٨٢، والعتائقي ٤٤، وابن المتوج ٩٤.
(٤) تفسير الطبري (١٠٠٧٤): ص ٩/ ٢٥.
(٥) انظر: الناسخ المخطوط لعبد القاهر ورقة من الفلم ٦١.
(٦) صحيح البخاري: كتاب الجهاد، ٢٨٠٤، ٢٨٦١، ٢٨٦٣ وصحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير، ١٧٤١ - ١٧٤٢.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٨٠): ص ٩/ ٢٧، وابن ابي حاتم (٥٧٧٠): ص ٣/ ١٠٢٩، وسنده ضعيف جدا، مسلسل بالعوفيين الضعغاء.
(٨) انظر: تفسير الطبري (١٠٠٧٨): ص ٩/ ٢٧، وابن ابي حاتم (٥٧٦٩): ص ٣، ١٠٢٩، اسناده صحيح ولكنه مرسل، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٢/ ٦١٤)، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر.