والخامس: أن على جميع الناس جناية القتل كما لو قتلهم جميعاً، ومن أحياها بإنجائها من غرق أو حرق أو هلكة، فعليهم شكره كما لو أحياهم جميعا. وهذا قول مجاهد أيضا (١).
والسادس: أن الله تعالى عظم أجرها ووزرها فإحياؤها يكون بمالك أو عفوك، وهذا قول الحسن (٢)، وقتادة (٣).
قال الطبري: "وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء: ٩٣].
وأما قوله: ﴿ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا﴾، فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: ﴿رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ﴾ [سورة البقرة: ٢٥٨]. فكان معنى الكافر في قيله: أنا أحيي، أنا أترك من قَدَرت على قتله - وفي قوله: وأميت، قتله من قتله، فكذلك معنى الإحياء في قوله: ومن أحياها، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم فكأنما أحيى الناس جميعًا.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى الإحياء: سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس - وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض" (٤).
قال الزمخشري: " فإن قلت: كيف شبه الواحد بالجميع وجعل حكمه كحكمهم؟
قلت: لأن كل إنسان يدلى بما يدلى به الآخر من الكرامة على الله وثبوت الحرمة، فإذا قتل فقد أهين ما كرم على الله وهتكت حرمته وعلى العكس، فلا فرق إذا بين الواحد والجميع في ذلك.
فإن قلت: فما الفائدة في ذكر ذلك؟
قلت: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ليشمئز الناس عن الجسارة عليها، ويتراغبوا في المحاماة على حرمتها لأن المتعرض لقتل النفس إذا تصور قتلها بصورة قتل الناس جميعا عظم ذلك عليه فثبطه، وكذلك الذي أراد إحياءها" (٥).
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ﴾ [المائدة: ٣٢]، أي: " ولقد أتت بني إسرائيل رسلُنا بالحجج والدلائل على صحة ما دعَوهم إليه من الإيمان بربهم، وأداء ما فُرِضَ عليهم" (٦).
قال مقاتل: " يعني: بالبيان في أمره ونهيه" (٧).
قال ابن كثير: " أي: بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة" (٨).
قال الطبري: " وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله: ﴿يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم﴾، إلى هذا الموضع بالبينات، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم" (٩).
قال ابن عطية: " أخبر الله تعالى عن «بني إسرائيل» أنهم جاءتهم الرسل من الله بالبينات في هذا وفي سواه" (١٠).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾ [المائدة: ٣٢]، أي: " ثم إن كثيرًا منهم بعد مجيء الرسل إليهم لمتجاوزون حدود الله بارتكاب محارم الله وترك أوامره" (١١).
قال مقاتل: " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك البيان ﴿في الأرض لمسرفون﴾، يعني: إسرافا في سفك الدماء واستحلال المعاصي" (١٢).
قال السعدي: أي: " ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا﴾ من الناس ﴿بعد ذلك﴾ البيان القاطع للحجة، الموجب للاستقامة في الأرض، في العمل بالمعاصي، ومخالفة الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج" (١٣).
قال الزمخشري: " ﴿بعد ذلك﴾، بعد ما كتبنا عليهم وبعد مجيء الرسل بالآيات ﴿لمسرفون﴾، يعنى: في القتل لا يبالون بعظمته" (١٤).
قال الطبري: " يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض" (١٥).
قال القرطبي: " ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله" (١٦).
قال البيضاوي: " أي: بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، وأرسلنا إليهم الرسل بالآيات الواضحة تأكيدا للأمر وتجديدا للعهد كي يتحاموا عنها وكثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل ولا يبالون به، وبهذا اتصلت القصة بما قبلها والإسراف التباعد عن حد الاعتدال في الأمر" (١٧).
قال ابن عطية: " ثم لم يزل الكثير منهم بعد ذلك في كل عصر يسرفون ويتجاوزون الحدود، وفي هذه الآية إشارة إلى فعل اليهود في همهم بقتل النبي ﷺ وغيره إلى سائر ذلك من أعمالهم" (١٨).
قال ابن كثير: "وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة، حيث يقول: {وَإِذْ

(١) انظر: تفسير الطبري (١١٧٩٢) - (١١٧٩٤): ص ١٠/ ٢٣٨.
(٢) انظر: تفسير الطبري (١١٧٩٧)، و (١١٨٠٠)، و (١١٨٠١)، و (١١٨٠٢): ص ١٠/ ٢٣٩، ٢٤٠.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١١٧٩٨)، و (١١٧٩٩): ص ١٠/ ٢٣٩.
(٤) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٠ - ٢٤١.
(٥) الكشاف: ١/ ٦٢٧.
(٦) التفسير الميسر: ١١٣.
(٧) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٢.
(٨) تفسير ابن كثير: ٢/ ٩٤.
(٩) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٢.
(١٠) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٢.
(١١) التفسير الميسر: ١١٣.
(١٢) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٢.
(١٣) تفسير رالسعدي ٢٢٩.
(١٤) الكشاف: ١/ ٦٢٧.
(١٥) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٤٢.
(١٦) تفسير القرطبي: ٦/ ١٤٧.
(١٧) تفسير البيضاوي: ٢/ ١٢٤.
(١٨) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٢.


الصفحة التالية
Icon