﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (٣٣)﴾ [المائدة: ٣٣]
التفسير:
إنما جزاء الذين يحاربون الله، ويبارزونه بالعداوة، ويعتدون على أحكامه، وعلى أحكام رسوله، ويفسدون في الأرض بقتل الأنفس، وسلب الأموال، أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبوا مع القتل (والصلب: أن يُشَدَّ الجاني على خشبة) أو تُقْطَع يدُ المحارب اليمنى ورجله اليسرى، فإن لم يَتُبْ تُقطعْ يدُه اليسرى ورجلُه اليمنى، أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم، ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم. وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا.
في سبب نزول الآية بعدها خمسة أقوال:
أحدها: قال أنس: " قدم أناس من عكل أو عرينة فاجتووا المدينة، فأمرهم النبي - ﷺ - بلقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا، فلما صَحّوا قتلوا راعي النبي - ﷺ -، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم فلما ارتفع النهار جيء بهم؛ فأمر؛ فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون.
قال أبو قلابة: فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله" (١).
وروي عن ابن عباس (٢)، وابن عمر (٣)، وسعيد بن جبير (٤)، وسعيد بن المسيب (٥)، والسدي (٦)، وجرير بن عبدالله البجلي (٧)، نحو ذلك.
وفي رواية الطبري عن أنس: "أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي ﷺ فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، وإنا استوخمنا المدينة، فأمر لهم النبي ﷺ بِذَوْدٍ وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم (٨)، وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم: ﴿إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله﴾ " (٩).
وقال السدي (١٠)، ومحمد بن عجلان (١١): لم يسمُل النبي ﷺ أعين العرنيِّين، ولكنه كان أراد أن يسمُل، فأنزل الله جل وعز هذه الآية على نبيه، يعرِّفه الحكم فيهم، ونهاه عن سمل أعينهم.
والثاني: قال ابن عباس: "كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ". رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس (١٢)، وبه قال الضحاك (١٣).
والثالث: أن أصحاب أبي بردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس (١٤).
وقال ابن السائب: "كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبي ﷺ على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يهج، ومن مر بهلال إلى رسول الله ﷺ لم يهج، فمر قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناس من قوم هلال، فنهدوا إليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضرا، فنزلت هذه الآية" (١٥). [باطل]
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس (١٦)، وبه قال الحسن (١٧)، وعكرمة (١٨).
قال القرطبي: " وهذا ضعيف يرده قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الإسلام يهدم ما قبله» (١٩) " (٢٠).
والخامس: عن ابن سعد؛ قال: "نزلت هذه الآية في الحرورية (٢١): ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ...﴾ " (٢٢).

(١) أخرجه البخاري (رقم ٢٣٣، ٣٠١٨، ٤١٩٣، ٤٦١٠، ٦٨٠٢، ٦٨٠٣، ٦٨٠٥، ٦٨٩٩)، ومسلم (رقم ١٦٧١/ ١٠ - ١٢). [صحيح].
(٢) أخرجه عنه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (٢/ ٩٨٤ رقم ١١١٣) من طريق محمد بن الصلت نا عبد العزيز بن مسلم الشامي عن الضحاك عن ابن عباس به.
قلنا: وسنده ضعيف؛ فالضحاك لم يلق ابن عباس، وعبد العزيز هذا لم نجد.
(٣) أخرجه أبو داود (٤/ ١٣١ رقم ٤٣٦٩) -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (٨/ ٢٨٢، ٢٨٣) -، والنسائي (٧/ ١٠٠)، والطبري في "جامع البيان" (٦/ ١٣٤)، والطبراني في "الكبير" (١٢/ رقم ١٣٢٤٧) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (١٥/ ٢٥٥) - من طريق سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد عن عبد الله بن عبيد الله عن ابن عمر.
قلنا: وسنده حسن.
(٤) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٠): ص ١٠/ ٢٤٥ - ٢٤٦.
(٥) أخرجه النسائي في "المجتبى" (٧/ ٩٨، ٩٩)، و"الكبرى" (٢/ ٢٩٧ رقم ٣٤٩٩) من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب ومعاوية بن صالح عن يحيى بن سعيد عن سعيد به.
قلنا: وسنده ضعيف؛ لإرساله..
(٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٧): ١٠/ ٢٥١. [ضعيف جدا، لإعضاله، وضعف أسباط].
(٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨١١): ص ١٠/ ٢٤٧. وسنده ضعيف، وفي متنه نكارة؛ فموسى بن عبيدة الربذي ضعيف وتركه بعضهم، ووجه النكارة: أنه قال: "فكره الله سمل الأعين؛ فأنزل هذه الآية"؛ فهذا مخالف لما رواه مسلم في "صحيحه" عن أنس: أنه - ﷺ - سمل أعين الرعاء وكان هذا قصاصاً لا جزاء.
وقال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (٢/ ٥٢): "وفي إسناده الربذي وهو ضعيف"، وأشار إلى النكارة التي وقعت في متنه.
(٨) سمل عينه: فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك. وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على صنيعه بمثله.
(٩) أخرجه الطبري (١١٨٠٨): ص ١٠/ ٢٤٤ - ٢٤٥.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٩): ص ١٠/ ٢٥٣. [وسنده ضعيف جداً؛ لإعضاله، وضعف أسباط، وفي متنه نكارة]
(١١) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٨): ص ١٠/ ٢٥٣. [وهو ضعيف؛ لإعضاله]
(١٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٠٣): ص ١٠/ ٢٤٣. فيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨٠٤): ص ١٠/ ٢٤٣ - ٢٤٤. مرسل، وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.
(١٤) زاد المسير: ١/ ٥٤١، عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء..
(١٥) زاد المسير: ١/ ٥٤١، عزاه ابن الجوزي لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨٠٦): ص ١٠/ ٢٤٤، أخرجه أبو داود (٤/ ١٣٢ رقم ٤٣٧٢)، والنسائي (٧/ ١٠١). [وسنده حسن]
(١٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٠٦)، و (١١٨٠٧): ص ١٠/ ٢٤٤. [ضعيف جدا]، أخرجه من طريق ابن حميد، فيه علتان:
الأولى: ابن حميد؛ حافظ متهم.
الثانية: الإرسال.
(١٨) انظر: تفسير الطبري (١١٨٠٧): ص ١٠/ ٢٤٤. [سنده ضعيف جداً]
(١٩) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان -باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة والحج (١٩٢): ص ١/ ١١٢.
(٢٠) تفسير القرطبي: ٦/ ١٤٩.
(٢١) وهم الخوارج: سموا بذلك لخروجهم على علي - رضي الله عنه - لأنه رضي بتحكيم الحكمين - في زعمهم - فكفروا عليا ومعاوية وعثمان وكل من رضي بالتحكيم، ويقولون بتكفير مرتكب الكبيرة، وتخليده في النار، والخروج على الأئمة بالسيف، ويقال لهم: الحرورية، والشراة. من أشهر فرقهم: النجدات، والأزارقة، والإباضية. انظر: مقالات الإسلاميين (ص ٧٥)، والفرق بين الفرق (ص ٧٣)، والملل والنحل (١/ ١١٤).
(٢٢) ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٣/ ٦٦) ونسبه لابن مردويه.


الصفحة التالية
Icon