قال ابن عطية: قوله: "قوله تعالى: ﴿ويسعون في الأرض فسادا﴾، تبيين للحرابة، أي: ويسعون بحرابتهم، ويحتمل أن يكون المعنى: ويسعون فسادا منضافا إلى الحرابة، والرابط إلى هذه الحدود إنما هو الحرابة" (١).
واختلف في المستحق اسم المحارب لله ورسوله الذي يلزمه حكم هذه الآية على ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه الزنى والسرقة وقتل النفس، وإهلاك الحرث والنسل. وهذا قول مجاهد (٢).
والثاني: أنه المجاهر بقطع الطريق والمكابر باللصوصية فى المِصْر وغيره، وهذا قول الشافعي (٣)، ومالك (٤)، والأوزاعي (٥)، والليث بن سعد (٦)، وابن لهيعة (٧).
والثالث: أنه المجاهر بقطع الطريق دون المكابر فى المِصْر، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه (٨)، وعطاء الخراساني (٩).
والراجح-والله أعلم- أن" المحارب لله ورسوله، من حارب في سابلة المسلمين وذِمَّتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حِرَابة، لأنه لا خلاف بين الحجة أن من نصب حربًا للمسلمين على الظلم منه لهم، أنه لهم محارب، ولا خلاف فيه. فالذي وصفنا صفته، لا شك فيه أنه لهم نَاصبٌ حربًا ظلمًا. وإذ كان ذلك كذلك، فسواء كان نصبه الحربَ لهم في مصرهم وقُراهم، أو في سُبلهم وطرقهم: في أنه لله ولرسوله محارب، بحربه من نَهَاه الله ورسوله عن حربه" (١٠).
قوله تعالى: ﴿أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا﴾ [المائدة: ٣٣]، أي: " أن يُقَتَّلوا، أو يُصَلَّبوا مع القتل" (١١).
قال الصابوني: أي: " أن يُقتلوا جزاء بغيهم، أو يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير" (١٢).
قال ابن عطية: " وأما قتل المحارب، فبالسيف ضربة العنق، وأما صلبه فجمهور من العلماء على أنه يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وهذا قول الشافعي، وجمهور من العلماء على أنه يصلب حيا ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك وهو الأظهر من الآية وهو الأنكى في النكال" (١٣).
قوله تعالى: ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ﴾ [المائدة: ٣٣]، أي: " أن تُقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى" (١٤).
قال ابن عطية: "وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقطع اليد من الأصابع ويبقي الكف والرجل من نصف القدم ويبقي العقب" (١٥).
قال الواحدي: " معنى: ﴿أو﴾ -ها هنا-: الإباحة فللإمام أن يفعل ما أراد من هذه الأشياء" (١٦).
وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن: «يقتلوا، ويصلبوا، تقطع»، بالتخفيف في الأفعال الثلاثة (١٧).
قوله تعالى: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣]، أي: " أو يُنفَوا إلى بلد غير بلدهم، ويُحبسوا في سجن ذلك البلد حتى تَظهر توبتُهم" (١٨).
قال السمرقندي: " يعني: يطلب حتى لا يجد قرارا في موضع، ويقال: ينفوا ﴿من الأرض﴾، يعني: يحبس فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه نفي عن الأرض" (١٩).
قال الواحدي: " معنى: النَّفي من الأرض الحبسُ في السجن لأن المجون بمنزلة المخرج من الدني" (٢٠).
واختلف أهل التأويل في معنى النفي الذي ذكر الله في قوله تعالى: ﴿أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: ٣٣]، على وجوه:
أحدها: أن يطلب حتى يقدر عليه، فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام، وهذا قول ابن عباس (٢١)، وأنس بن مالك (٢٢)، والحسن (٢٣)، وسعيد بن جبير (٢٤)، والضحاك (٢٥)، وقتادة (٢٦)، والربيع بن أنس (٢٧)، والزهري (٢٨)، والليث بن سعد (٢٩)، ومالك بن أنس (٣٠)، والسدي (٣١).
والثاني: أن معنى «النفي» في هذا الموضع: أن الإمام إذا قدر عليه نفاه من بلدته إلى بلدةٍ أخرى غيرها. وهذا قول عمر بن عبدالعزيز (٣٢)، وسعيد بن جبير-في رواية أخرى- (٣٣).
والثالث: أن المراد بالنفي هاهنا السجن، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه (٣٤).
واختار الطبري: أن المراد بالنفي هاهنا: أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه حتى تظهر توبته من فسوقه، ونزوعه عن معصيته ربَّه (٣٥).
قال ابن عطية: " والظاهر أن الأرض في هذه الآية هي أرض النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب ومنه حديث الذي ناء بصدر، نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام إن كان هذا المحارب المنفي مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة وإفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب ترك مسرحا، وهذا هو صريح
(٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٤): ص ١٠/ ٢٧٨.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٥): ص ١٠/ ٢٥٥.
(٤) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٢): ص ١٠/ ٢٥٥.
(٥) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢١): ص ١٠/ ٢٥٤.
(٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٣): ص ١٠/ ٢٥٥.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٣): ص ١٠/ ٢٥٥.
(٨) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٦): ص ١٠/ ٢٥٦.
(٩) انظر: تفسير الطبري (١١٨٢٠): ص ١٠/ ٢٥٤.
(١٠) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٥٦.
(١١) التفسير الميسر: ١١٣.
(١٢) صفوة التفاسير: ٣١٣.
(١٣) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٥.
(١٤) صفوة التفاسير: ٣١٣.
(١٥) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٥.
(١٦) الوجيز: ٣١٧.
(١٧) انظر: المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٥.
(١٨) التفسير الميسر: ١١٣.
(١٩) بحر العلوم: ١/ ٣٨٦.
(٢٠) الوجيز: ٣١٧.
(٢١) انظر: تفسير الطبري (١١٨٥٦): ص ١٠/ ٢٦٨.
(٢٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٥٧): ص ١٠/ ٢٦٨.
(٢٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٣): ص ١٠/ ٢٦٩.
(٢٤) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٧): ص ١٠/ ٢٧٠.
(٢٥) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦١)، و (١١٨٦٢): ص ١٠/ ٢٦٩.
(٢٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٦): ص ١٠/ ٢٧٠.
(٢٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٤): ص ١٠/ ٢٦٩.
(٢٨) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٥): ص ١٠/ ٢٦٩ - ٢٧٠.
(٢٩) انظر: تفسير الطبري (١١٨٥٩): ص ١٠/ ٢٦٩.
(٣٠) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٠): ص ١٠/ ٢٦٩.
(٣١) انظر: تفسير الطبري (١١٨٥٥): ص ١٠/ ٢٦٨.
(٣٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٩) - (١١٨٧١): ص ١٠/ ٢٧٠ - ٢٧٣.
(٣٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨٦٨): ص ١٠/ ٢٧٠.
(٣٤) انظر: تفسير الطبري: ١٠/ ٢٧٤.
(٣٥) انظر: تفسير الطبري: ١٠/ ٢٧٤.