مذهب مالك: أن يغرب ويسجن حيث يغرب، وهذا هو الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الراجح، لأن نفيه من أرض النازلة أو الإسلام هو نص الآية وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإذا تاب وفهم حاله سرح" (١).
ومعنى «النفي»، في كلام العرب، هو الطرد، ومن ذلك قول أوس بن حجر (٢):

يُنْفَوْنَ عَنْ طْرُقِ الكِرَامِ كَمَا تَنْفِي المَطَارِقُ مَا بَلِي القَرَدُ
ومنه قيل للدراهم الرديئة وغيرها من كل شيء: النُّفَاية، وأما المصدر من نفيت، فإنه النفي والنَّفَاية، ويقال: الدلو ينفي الماء، ويقال لما تطاير من الماء من الدلو: النّفِيُّ، ومنه قول الأخيل الطائي (٣):
كأَنَّ مَتْنَيِه مِنَ النَّفِيِّ مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ
ومنه قيل: نَفىَ شَعَرُه، إذا سقط، يقال: حَال لونُك، ونَفىَ شعرُك (٤).
قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ [المائدة: ٣٣]، أي: " وهذا الجزاء الذي أعدَّه الله للمحاربين هو ذلّ في الدنيا" (٥).
قال الواحدي: أي: " هوانٌ وفضيحةٌ" (٦).
قال البيضاوي: أي: " ذل وفضيحة" (٧).
قال الطبري: " يعني: لهؤلاء المحاربين خزي في الدنيا، يقول: هو لهم شرٌّ وعار وذلةٌ، ونكال وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة" (٨).
قال ابن كثير: " أي: هذا الذي ذكرته من قتلهم، ومن صلبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ونفيهم - خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا " (٩).
قال ابن عطية: "وقوله تعالى: ﴿ذلك لهم خزي﴾، إشارة إلى هذه الحدود التي توقع بهم، وغلظ الله الوعيد في ذنب الحرابة بأن أخبر أن لهم في الآخرة عذابا عظيما مع العقوبة في الدنيا، وهذا خارج عن المعاصي الذي في حديث عبادة بن الصامت في قول النبي صلى الله عليه وسلم، «فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو له كفارة» (١٠).
ويحتمل: أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره، وهذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة، اما أن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وعظم الذنب، والخزي في هذه الآية الفضيحة والذل والمقت" (١١).
قوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣]، أي: " ولهم في الآخرة عذاب شديد إن لم يتوبوا" (١٢).
قال الطبري: أي: " لهؤلاء الذين حاربوا الله ورسولَه وسعوا في الأرض فسادًا، فلم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا في الآخرة، مع الخزي الذي جازيتهم به في الدنيا، والعقوبة التي عاقبتهم بها فيها عذاب عظيم، يعني: عذاب جهنم" (١٣).
قال البيضاوي: [وذلك]: " لعظم ذنوبهم" (١٤).
قال ابن كثير: أي: " مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم، عن عبادة بن الصامت قال: «أخذ علينا رسول الله ﷺ كما أخذ على النساء: ألا نشرك بالله شيئًا: ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه بعضنا بعضًا، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له» (١٥) " (١٦).
قال الواحدي: " وهذا للكفَّار الذين نزلت فيهم الآية لأنَّ العُرنيين ارتدُّوا عن الدِّين والمسلم إذا عوقب في الدُّنيا بجنايته صارت مكفَّرةً عنه" (١٧).
وعن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أذنب ذنبًا في الدنيا، فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه" (١٨).
قال القرطبي: " ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى: ﴿ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ [النساء: ١١٦] أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية" (١٩).
قال الزهري (٢٠)، وابن سلام (٢١)، والمقري (٢٢)، وابن حزم (٢٣)، " قوله تعالى: {إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
(١) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٥.
(٢) شرح المفضليات: ٨٢٧، وليس في ديوان أوس، وهو من شعره، من القصيدة الخامسة التي أولها:
أَبَنِي لُبَيْنَي لَسْتُمُ بِيَدٍ إِلا يَدٌ لَيْسِتْ لَهَا عَضُدُ
ويهجوهم، ورواية المفضليات من طرق الكرام. والمطارق جمع مطرقة ومطرق وهو القضيب الذي يضرب به الصوف أو القطن لينتفش، وينفي منه القرد. والقرد (بفتحتين): ما تمعط من الوبر والصوف وتلبد وانعقدت أطرافه، وهو نفاية الصوف، ثم استعمل فيما سواه من الوبر والشعر والكتان. وقوله: ما يلي القرد، أي: ما وليه القرد، من قولهم وليه يليه، أي: قاربه ودنا منه. يعني: ما قاربه القرد وباشره ولصق به تعقده.
(٣) انظر: جمهرة اللغة ٣/ ١٣٥، والمخصص ١٠/ ٩٠، ومجالس ثعلب: ٢٤٩، والحيوان ٢/ ٣٣٩، والقالي ٢/ ٨، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده:
كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ
والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري: "هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة.
(٤) انظر: تفسير الطبري: ١٠/ ٢٧٥ - ٢٧٦.
هذا في خبر محمد بن كعب القرظي وعمر بن عبد العزيز لما استخلف فرآه شعثًا قال:
... وكان عهدنا به بالمدينة أميًرا علينا، حسن الجسم، ممتلئ البضعة، فجعلت أنظر إليه نظرًا، لا أكاد أصرف بصري عنه، فقال: يا ابن كعب، مالك تنظر إلي نظرًا ما كنت تنظره إلي قبل؟ قال فقلت: لعجبي! قال: ومما عجبك؟ فقلت: لما نحل من جسمك، ونفى من شعرك، وتغير من لونك؟ قال: وكيف لو رأيتني بعد ثلاث في قبري، حين تقع عيناي على وجنتي، ويسيل منخري وفمي دودًا وصديدًا، لكنت لي أشد نكرة منك اليوم!.
نفى الشعر: ثار وذهب وشعث وتساقط.
(٥) التفسير الميسر: ١١٣.
(٦) الوجيز: ٣١٧.
(٧) تفسير البيضاوي: ٢/ ١٢٥.
(٨) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٧٦.
(٩) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٠١.
(١٠) صحيح مسلم برقم (١٧٠٩).
(١١) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٥.
(١٢) التفسير الميسر: ١١٣.
(١٣) تفسير الطبري: ١٠/ ٢٧٦ - ٢٧٧.
(١٤) تفسير البيضاوي: ٢/ ١٢٥.
(١٥) صحيح مسلم برقم (١٧٠٩).
(١٦) تفسير ابن كثير: ٣/ ١٠١.
(١٧) الوجيز: ٣١٧.
(١٨) المسند (١/ ٩٩) وسنن الترمذي برقم (٢٦٢٦) وسنن ابن ماجة برقم (٢٦٠٤) والعلل للدارقطني (٣/ ١٢٩).
(١٩) تفسير القرطبي: ٦/ ١٥٧ - ١٥٨.
(٢٠) الناسخ والمنسوخ: ٣٦.
(٢١) انظر: الناسخ والمنسوخ: ٢٩٩.
(٢٢) الناسخ والمنسوخ: ٨٠.
(٢٣) الناسخ والمنسوخ: ٣٦.


الصفحة التالية
Icon