أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}، نسخت بالاستثناء بعدها في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾.
قال الزهري: "يقول: فلا سبيل لكم عليهم بعد التوبة. أراد بذلك الرجل المسلم الذي يكون منه الفساد ثم يتوب من قبل أن يظفر به ربّ الأمر. وأمّا الكفار الذين يفسدون في الأرض وهم في دار الحرب فهؤلاء لا تقبل توبتهم، فإنّهم لو كانت توبتهم صادقة للحقوا ببلاد المسلمين" (١).
وقد اختلف أهل العلم في نسخ حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في «العرنيين»، على قولين (٢):
أحدهما: أن ذلك حكم منسوخ، نسخَه نهيُه عن المثلة وذلك بقوله: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٣].
وقالوا: أنزلت هذه الآية عِتابًا لرسول الله ﷺ فيما فعل بالعُرَنيين. وهذا قول محمد بن العجلان (٣)، والليث بن سعد (٤).
والثاني: أن فِعْلُ النبيِّ ﷺ بالعرنيين، حكمٌ ثابت أبدًا، ولم ينسخ ولم يبدّل. وقوله: ﴿إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ الآية، حكمٌ من الله فيمن حارب وسَعى في الأرض فسادًا بالحِرَابة.
والعرنيون ارتدُّوا، وقتلوا، وسرقوا، وحاربوا الله ورسوله، فحكمهم غير حكم المحارب الساعي في الأرض بالفساد من أهل الإسلام أو الذمة.
قال القرطبي: "وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي، ولذلك قال الله تعالى: ﴿إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم﴾ " (٥).
وقدر روي عن السدي: " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بهم يعني العرنيين فأراد أن يسمُل أعينهم، فنهاه الله عن ذلك، وأمره أن يقيم فيهم الحدود، كما أنزلها الله عليه" (٦).
الفوائد:
١ - بيان حكم الحرابة وحقيقتها: خروج جماعة اثنان فأكثر ويكون بأيديها سلاح ولهم شوكة، خروجهم إلى الصحراء بعيداً عن المدن والقرى، يشنون هجمات على المسلمين فيقتلون ويسلبون ويعتدون على الأعراض، هذه هي الحرابة وأهلها، يقال لهم: المحاربون وحكمهم ما ذكر تعالى في الآية.
٢ - أن الإمام مخير في إنزال العقوبة التي يرى أنها مناسبة لاستتباب الأمن، وهذا مذهب الجمهور من الأئمة، وهو أرفق وأصلح وأكثر تمثيلاً للآية وانسجامًا معها.
وهذا إن قلنا ﴿أو﴾ في الآية للتخيير، وإلا فمن قتل وأخذ المال وأخاف الناس قتل وصلب، ومن قتل ولم يأخذ مالاً قتل، ومن قتل وأخذ مالاً قطعت يده ورجله من خلاف فتقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ومن لم يقتل ولم يأخذ مالاً يُنفى.
ومذهب الجمهور، وهو الحق لا تقطع يد المحارب إلا في مال تقطع فيه يد السارق، وهو زنة: ربع دينار ذهب فأكثر.
وإن تعذر النفي فالسجن يقوم مقامه، إذ هو نفي من ظاهر الأرض إلى باطنها. كما قال بعض المسجونين (٧):

(١) الناسخ والمنسوخ: ٣٦.
(٢) انظر: تفسير الطبري: ١٠/ ٢٥٢ - ٢٥٣.
(٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٨): ص ١٠/ ٢٥٣.
(٤) انظر: تفسير الطبري (١١٨١٨): ص ١٠/ ٢٥٣.
(٥) تفسير القرطبي: ٦/ ١٥٠.
(٦) أخرجه الطبري (١١٨١٩): ص ١٠/ ٢٥٣.
(٧). البيتان من الطويل، وهما لصالح بن عبد القدوس في أمالي المرتضى ١/ ١٠١، وبلا نسبة في عيون الأخبار ١/ ٨١ - ٨٢، والمحاسن والأضداد ص ٣٨.


الصفحة التالية
Icon