قال ابن الجوزي: " هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دم، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم من انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشافعي" (١).
قال السمعاني: " وقوله ﴿من قبل أن تقدروا عليهم﴾ خطاب للأئمة، أي: من قبل الظفر بهم" (٢).
قال الراغب: " الاستثناء [في قوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾] راجع إلى كل من تقدم ذكره، وهو في العذاب وفي إقامة الحدود، وقال بعض الفقهاء: كل حق لله مختص بقاطع الطريق فالتوبة قبل القدرة يزيل ما عليه إن كان من حقوق الله، وإن كان من حقوق الآدميين فلا يزول إذا طالب به صاحبه" (٣).
وقوله: ﴿تاب﴾، يريد به المستقبل، قال الشاعر (٤):

فإني لاتيكم تشكر ما مضى من الأمر واستيجاب ما كان في غد
يريد به المستقبل: لذلك قال «كان في غد» ولو كان ماضيا لقال: ما كان في أمس، ولم يجز ما كان في غد. وأما قول الكميت (٥):
ما ذاق بؤس معيشة ونعيمها فيما مضى أحد إذا لم يعشق
فمن ذلك إنما أراد: لم يذقها فيما مضى ولن يذوقها فيما يستقبل إذا كان لم يعشق (٦).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ﴾ [المائدة: ٣٤]، ستة وجوه:
أحدها: إلا الذين تابوا من شركهم وسعيهم فى الأرض فساداً بإسلامهم، فأما المسلمون فلا يتسقط التوبة عنهم حداً وجب عليهم، وهذا قول ابن عباس (٧)، والحسن (٨)، وعكرمة (٩)، ومجاهد (١٠)، والضحاك (١١)، وقتادة (١٢)، وعطاء الخراساني (١٣)، واختيار الواحدي (١٤).
الثاني: إلا الذين تابوا من المسلمين المحاربين بأمان من الإِمام قبل القدرة عليهم، فأما التائب بغير أمان فلا، وهذا قول عليّ -عليه السلام- (١٥)، والشعبي (١٦)، والسدي (١٧)، ومكحول (١٨).
(١) زاد المسير: ١/ ٥٤٣.
(٢) تفسير السمعاني: ٢/ ٣٥.
(٣) تفسير الراغب الاصفهاني: ٤/ ٣٣٧ - ٣٣٨.
(٤) هو الطرماح بن حكيم الطائى. وقبله:
من كان لا يأتيك إلا لحاجة يروح بها فيما يروح ويغتدى
وانظر: الديوان ١٤٦.
(٥) انظر: معاني القرآن للفراء: ١/ ٢٤٤.
(٦) انظر: معاني القرآن للفراء: ١/ ٢٤٤.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٥): ص ١٠/ ٢٧٨ - ٢٧٩.
(٨) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٢): ص ١٠/ ٢٧٧ - ٢٧٨.
(٩) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٢): ص ١٠/ ٢٧٧ - ٢٧٨.
(١٠) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٣)، و (١١٨٧٤): ص ١٠/ ٢٧٨.
(١١) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٥): ص ١٠/ ٢٧٨.
(١٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٧)، و (١١٨٧٨): ص ١٠/ ٢٧٩.
(١٣) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٨): ص ١٠/ ٢٧٩.
(١٤) انظر: الوجيز: ٣١٨.
(١٥) انظر: تفسير الطبري (١١٨٧٩): ص ١٠/ ٢٧٩ - ٢٨٠.
(١٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨٨٠): ص ١٠/ ٢٨٠.
(١٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٨٢): ص ١٠/ ٢٨١ - ٢٨٢.
(١٨) انظر: تفسير الطبري (١١٨٨٣): ص ١٠/ ٢٨٢.


الصفحة التالية
Icon