وروى الشعبي: "كان حارثة بن بدر قد أفسد في الأرض وحارب، ثم تاب. وكُلِّم له عليّ فلم يُؤْمنه. فأتى سعيدَ بن قيس فكلّمه، فانطلق سعيدُ بن قيس إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقولُ فيمن حارب الله ورسوله؟ فقرأ الآية كلها، فقال: أرأيت من تابَ من قبل أن تقدِر عليه؟ قال: أقول كما قال الله. قال: فإنه حارثة بن بدر! قال: فأمَّنه علي، فقال حارثة:

أَلا أَبْلِغَا هَمْدَانَ إِمَّا لَقِيتَها عَلَى النَّأيِ لا يَسْلَمْ عَدُوٌّ يَعِيبُهَا
لَعَمْرُ أَبِيهَا إنَّ هَمَدَانَ تَتَّقِي الإلهَ وَيَقْضِي بِالْكِتَابِ خَطِيبُهَا" (١).
والثالث: إلا الذين تابوا بعد أن لحقوا بدار الحرب وإن كان مسلماً ثم جاء تائباً قبل القدرة عليه، وهذا قول عروة بن الزبير (٢).
وقد روي عن عروة خلاف هذا القول (٣).
والرابع: إن كان في دار الإٍسلام في منعة وله فئة يلجأ إليها وتاب قبل القدرة عليه قبلت توبته، وإن لم يكن له فئة يمتنع بها وتاب لم تسقط عنه توبته شيئاً من عقوبته، وهذا قول أبو عمرو (٤)، وربيعة (٥)، والحكم بن عيينة (٦).
والخامس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه حدود الله تعالى دون حقوق الآدميين، وهذا قول الشافعي (٧).
قال ابن قدامة: " فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إلا الذين تابوا... فعلى هذا يسقط عنهم تحتم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والدية لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا" (٨).
والسادس: أن توبته قبل القدرة عليه تضع عنه سائر الحقوق والحدود إلا الدماء، وهذا مذهب مالك (٩).
قال الإمام الطبري: " وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: توبة المحارب الممتنع بنفسه أو بجماعة معه قبل القُدرة عليه، تضع عنه تَبِعات الدنيا التي كانت لزمته في أيام حربه وحِرَابته، من حدود الله، وغُرْم لازم، وقَوَدٍ وقصاص، إلا ما كان قائمًا في يده من أموال المسلمين والمعاهدين بعينه، فيردّ على أهله لإجماع الجميع على أن ذلك حكم الجماعة الممتنعة المحاربة لله ولرسوله، الساعيةِ في الأرض فسادًا على وجه الردة عن الإسلام. فكذلك حكم كل ممتنع سَعَى في الأرض فسادًا، جماعةً كانوا أو واحدًا.
فأمَّا المستخفي بسرقته، والمتلصِّصُ على وجه اغتفال من سرقه، والشاهرُ السلاحَ في خلاء على بعض السابلة، وهو عند الطلب غير قادر على الامتناع، فإن حكم الله عليه تاب أو لم
(١) أخرجه الطبري (١١٨٨١): ١٠/ ٢٨٠ - ٢٨١. والبيتان في تاريخ ابن عساكر ٣/ ٤٣٠، مع اختلاف يسير في روايتهما.
(٢) انظر: تفسير الطبري (١١٨٩٢): ١٠/ ٢٨٥.
(٣) أخرج الطبري (١١٨٩٣): ص ١٠/ ٢٨٦: عن هشام بن عروة، عن عروة قال: "يقام عليه حدُّ ما فر منه، ولا يجوز لأحدٍ فيه أمان يعني، الذي يصيب حدًّا، ثم يفرُّ فيلحق الكفار، ثم يجيء تائبًا".
(٤) انظر: تفسير الطبري (١١٨٩٤)، و (١١٨٩٥): ص ١٠/ ٢٨٦ - ٢٨٧.
(٥) انظر: تفسير الطبري (١١٨٩٦): ص ١٠/ ٢٨٧.
(٦) انظر: تفسير الطبري (١١٨٩٧): ص ١٠/ ٢٨٧.
(٧) انظر: تفسير الطبري (١١٨٩٨): ص ١٠/ ٢٨٧، وتفسير الإمام الشافعي: ٢/ ٧٢٣.
(٨) المغني: ١٢/ ٤٨٣.
(٩) انظر: النكت والعيون: ٢/ ٣٤.


الصفحة التالية
Icon