يتب ماضٍ، وبحقوق من أخذ ماله، أو أصاب وليَّه بدم أو خَتْلٍ مأخوذ، وتوبته فيما بينه وبين الله جل وعز قياسًا على إجماع الجميع على أنه لو أصاب شيئًا من ذلك وهو للمسلمين سِلْمٌ، ثم صار لهم حربًا، أن حربه إياهم لن يضعَ عنه حقًا لله عز ذكره، ولا لآدمي، فكذلك حكمه إذا أصاب ذلك في خلاء أو باستخفاء، وهو غير ممتنع من السلطان بنفسه إن أراده، ولا له فئة يلجأ إليها مانعةٌ منه.
وفي قوله: ﴿إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم﴾، دليل واضح لمن وُفِّق لفهمه، أنّ الحكم الذي ذكره الله جل وعزّ في المحاربين، يجري في المسلمين والمعاهدين، دون المشركين الذين قد نصبُوا للمسلمين حربًا، وذلك أن ذلك لو كان حكمًا في أهل الحرب من المشركين، دون المسلمين ودون ذمتهم، لوجب أن لا يُسْقِطَ إسلامُهم عنهم إذا أسلموا أو تابوا بعد قدرتنا عليهم ما كان لهم قبل إسلامهم وتوبتهم من القتل، وما للمسلمين في أهل الحرب من المشركين. وفي إجماع المسلمين أنّ إسلام المشرك الحربيِّ يضع عنه، بعد قدرة المسلمين عليه، ما كان واضعَه عنه إسلامه قبل القدرة عليه ما يدلّ على أن الصحيح من القول في ذلك قول من قال: عنى بآية المحاربين في هذا الموضع، حُرَّاب أهل الملة أو الذمة، دون من سواهم من مشرِكي أهل الحرب" (١).
قال ابن عطية: " ورجح الطبري القول الآخر وهو أحوط للمفتي ولدم المحارب، وقول مالك أسد للذريعة وأحفظ للناس والطرق، والمخيف في حكم القاتل ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العقوبات استحسانا" (٢).
قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: ٣٤]، أي: " فاعلموا -أيها المؤمنون- أن الله غفور لعباده، رحيم بهم" (٣).
قال مقاتل: " ﴿غفور﴾ لما كان منه في كفره، ﴿رحيم﴾ به حين تاب ورجع إلى الإسلام" (٤).
قال السمرقندي: أي: " فلا يعاقبون في الدنيا ولا فى الآخرة، ويغفر الله تعالى لهم ذنوبهم" (٥).
قال النسفي: أي: " يغفر لهم بالتوبة ويرحمهم فلا يعذبهم" (٦).
قال ابن عطية: " أخبر بسقوط حقوق الله عنه" (٧).
قال الزجاج: " وجعل توبة المؤمنين من الزنا والقتل والسرقة لا ترفع عنهم إقامة
الحدود عليهم، وتدفع عنهم العذاب في الآخرة، لأن في إقامة الحدود الصلاح للمؤمنين، والحياة، قال الله جل ثناؤه: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٧٩] " (٨).
الفوائد:
١ - من تاب من المحاربين قبل التمكن منه يعفى عنه إلا أن يكون بيده مال سلبه فإنه يرده على ذنوبه أو يطلب بنفسه إقامة الحد عليه فيجاب لذلك.
٢ - عظم عفو الله ورحمته بعباده لمغفرته لمن تاب ورحمته له.
٣ - ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: «الغفور»، و «الرحيم»؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.
فـ «الغفور»: هو الذي تكثر منه المغفرة. وبناء «فعول»: بناء المبالغة في الكثرة (٩).
(٢) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٤.
(٣) التفسير الميسر: ١١٣.
(٤) تفسير مقاتل بن سليمان: ١/ ٤٧٣.
(٥) بحر العلوم: ١/ ٣٨٧.
(٦) تفسير النسفي: ١/ ٤٤٥.
(٧) المحرر الوجيز: ٢/ ١٨٧.
(٨) معاني القرآن: ٢/ ١٧١.
(٩) انظر: شأن الدعاء: ١/ ٦٥.