النوع الثاني: التوسل بالإِيمان الصحيح الصادق، وهو مشروع؛ لما فيه من تقوية التوحيد، وله أمثلة:
١ - منها ما حكاه الله عن أولي الألباب: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: ١٩٣].
٢ - ومنها ما رواه الترمذي وحسنه- بل صححه كما في " مدارج السالكين " (١) - وبقية أصحاب السنن الأربع، وصححه ابن حبان والحاكم؛ عن بريدة رضي الله عنه، أن النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ، الَّذِي إِذَا دُعِيَ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى» (٢).
٣ - ومنها: قول تميم بن المعز بن باديس الأمير الصنهاجي المالكي (٣):
فَكَّرْتُ فِي نَارِ الْجَحِيمِ وَحَرِّهَا | يَا وَيْلَتَاهُ وَلَاتَ حِينَ مَنَاصِ |
فَدَعَوْتُ رَبِّي أَنَّ خَيْرَ وَسِيلَتِي | يَوْمَ الْمَعَادِ شَهَادَةُ الْإِخْلَاص |
النوع الثالث: توسل الداعي بطاعته وصالح عمله، وهو مشروع لما فيه من تغذية الخشوع المناسب للموضوع، وله أمثلة:
١ - منها: حديث الصخرة في " الصحيحين "؛ أَنَّهُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «انْطَلَقَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَل فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُ... » ثم ذكر برور الأول بأبويه وانفراج الصخرة قليلاً لدعائه، وعفة الثاني عمن أمكنته من نفسها بعد شوق طويل وانفراج الصخرة له أيضاً، ومبالغة الثالث في حفظ الأمانة وتمام انفراج الصخرة، وأنهم كلهم قالوا في أدعيتهم: «اللَّهُمَّ! إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ؛ فَافْرِجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ» (٤).
٢ - ومنها: تقديم الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل الدعاء، لما رواه أبو داود، والترمذي وصححه، أَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي وَيَدْعُو، وَلَمْ يَحْمَدْ رَبَّهُ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى نَبِيِّهِ، فَقَالَ: «عَجِلَ هَذَا». ثُمَّ دَعَاهُ، فَقَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَبْدَأْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ؛ وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، وَلْيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ» (٥).
(٢) صحيح: أخرجه أحمد (٥/ ٣٤٩ و ٣٥٠ و ٣٦٠ - مصورة المكتب)، وأبو داود (١/ ٢٣٤)، والترمذي (٩/ ٤٤٥ - ٤٤٦/ ٣٥٤٢)، وابن ماجه (٣٨٥٧)، وابن حبان (٣/ ١٧٣ و ١٧٤/ برقم: ٨٩١ و ٨٩٢)، والحاكم (١/ ٥٠٤) من طرق عن مالك بن مِغْوَل عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه به.
وقال الترمذي: " حديث حسن غريب ".
وقال الحاكم: " حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وله شاهد صحيح على شرط مسلم! " ووافقه الذهبي!
وقال المنذري في " مختصر السنن " (٢/ ١٤٥): " قال شيخنا الحافظ أبو الحسن المقدسي: وهو إسناد لا مطعن فيه، ولا أعلم أنه روي في هذا الباب حديث " أجود إسناداً منه ". وقاله في " الترغيب " (٣/ ٢٨٩) أيضاً، وحكاه المباركفوري في " التحفة " (٩/ ٤٤٧) عنه بزيادة: " وهو حديث حسن ".
وللحديث شاهد بنحوه أخرجه أبو داود (١/ ١٥٦)، والنسائي (٣/ ٥٢)، وابن خزيمة في " صحيحه " (١/ ٣٥٨/ ٧٢٤) من طريق عبد الوارث ثنا الحسين المعلم عن عبد الله بن بُريدة عن حنظلة بن علي أن محجن بن الأدرع حدثه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ... أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ: فَقَالَ: «قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ (ثَلَاثاً)».
(٣) انظر: الوافي بالوفيات: ١٠/ ٢٥٧، وشجرة النور الزكية في طبقات المالكية: ٢/ ٢٢٥.
(٤) رواه البخاري (٦/ ٥٠٥ - ٥٠٦/ ٣٤٦٥)، ومسلم (٤/ ٢٠٩٩ - ٢١٠٠/ ٢٧٤٣) عن أبن عمر موقوفاً مطولاً، وقد ذكره المؤلف مختصراً بمعناه.
(٥)) صحيح: أخرجه أحمد (٦/ ١٨)، وعنه أبو داود (١/ ٢٣٣)، والترمذي (٩/ ٤٥٠ - ٤٥١/ ٣٥٤٦)، وابن خزيمة (١/ ٣٥١/ ٧١٠)، وابن حبان (٥/ ٢٩٠/ ١٩٦٠)، والحاكم (١/ ٢٣٠)، وإسماعيل القاضي في " فضل الصلاة على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " (١٠٦). وقال الترمذي: " حسن صحيح "، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم! "، ووافقه الذهبي!
وأخرجه الترمذي (٩/ ٤٤٩/ ٣٥٤٤) عن رشدين بن سعد، والنسائي (٣/ ٤٤ - ٤٥) عن ابن وهب، وكذا ابن خزيمة (١/ ٣٥١/ ٧٠٩)، وابن السني (١١٢) عن حميد بن مالك: ثلاثتهم عن أبي هانئ به، وقال الترمذي: " حديث حسن ".