قلت: والتوسل بحق الأنبياء، فهذا فيه نزاع، إذ منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام.
قال أبو حنيفة: " "وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام" (١).
وقال أيضا: "يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام" (٢).
وقال بشير بن الوليد: حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: "لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك (٣)، أو بحق خلقك" (٤).
وقد ذكر أهل العلم أنه لم يصح في التوسل بجاه النبي-صلى الله عليه وسلم- دليل، والأخبار التي ذكرت لم ترد شيء منها من كتب المسلمين التي يعتمد عليها، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث، والتوسل من العبادة، والعبادات لا تثبت إلا بدليل صحيح صريح.
قالوا: بأن جاه النبي ﷺ عند الله عظيم ولا شك، لكن التوسل به في الدعاء لم يدل عليه دليل صحيح فهو لا يجوز وهو من البدع في الدعاء (٥).
قال ابن باز: " أما التوسل بمخلوقات فلا، جاه النبي، أو بحق النبي أو بجاه فلان، أو شرف فلان، وسيلة باطلة ما تنفع، ليست وسيلة شرعية" (٦).
قال محمود الآلوسي مفتي الحنفية ببغداد وتبعه ابنه العلامة نعمان الآلوسي- واللفظ للوالد-: "إن معنى «الاستشفاع» به -صلى الله عليه وسلم - طلب الدعاء منه، وليس معناه: الإقسام به على الله تعالى... وعلى هذا لا يصلح «الخبر» [أي خبر التوسل والاستشفاع] ولا ما قبله [في آية الوسيلة]- دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام [والتوسل] بذاته ﷺ حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً، قياساً عليه، عليه الصلاة والسلام" (٧).
وقد أجازه بعض العلماء، منهم: الشيخ محمد العز بن عبدالسلام، إذ نقل عنه جواز التوسل في رسول الله-صلى الله عليه وسلم- خاصة، فقال: "أما مسألة الدعاء فقد جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله ﷺ علم بعض الناس الدعاء فقال في أقواله: "قل: اللهم إني أقسم عليك بمحمد ﷺ نبي الرحمة" (٨).

(١) إتحاف السادة المتقين ٢/ ٢٨٥؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص ٢٣٤.
(٢) العقيدة الطحاوية ص ٢٣٤؛ وإتحاف السادة المتقين ٢/ ٢٨٥؛ وشرح الفقه الأكبر للقاري ص ١٩٨.
(٣) كره الإمام أبو حنيفة ومحمد بن الحسن أن يقول الرجل في دعائه"اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك".
لعدم وجود النص في الإذن به، وأما أبو يوسف فقد جوز لوقوفه على نص من السنة وفيه أن النبي ﷺ كان من دعائه: "اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدِّك الأعلى وكلماتك التامة".
وهذا الحديث أخرجه البيهقي في كتاب الدعوات الكبير كما في البناية ٩/ ٣٨٢، ونصب الراية ٤/ ٢٧٢، ٢٧٣.
وفي إسناده ثلاثة أمور قادحة:
١ - عدم سماع داود بن أبي عاصم من ابن مسعود.
٢ - عبد الملك بن جريج مدلس ويرسل.
٣ - عمر بن هارون متهم بالكذب.
من أجل هذا قال ابن الجوزي كما في البناية ٩/ ٣٨٢ "هذا حديث موضوع بلا شك وإسناده محبط كما ترى".
انظر تهذيب التهذيب ٣/ ١٨٩، ٦/ ٤٠٥، ٧/ ٥٠١؛ وتقريب التهذيب ١/ ٥٢٠.
(٤) التوسل والوسيلة ص ٨٢؛ وانظر شرح الفقه الأكبر ص ١٩٨.
(٥) انظر: مجموع الفتاوى: ١٠/ ٣١٨ - ٣١٩.
(٦) مجموع فتاوى ابن باز: ٢٨/ ٥٦.
(٧) انظر: تفسير الآلوسي: ٣/ ٢٩٤ - وما بعدها.
(٨). سبق تخريجه.
قال أهل العلم: " وليس في هذا الحديث متمسّك لمن يرى جواز التوسل بذات النبي ﷺ أو جاهه؛ فإن الحديث صريح في أن الغرض من مجيء هذا الرجل، وهو ضرير البصر إلى النبي ﷺ طلب الدعاء منه، وليس التوسل بذاته أو جاهه، ولو أراد غير ذلك لجلس في بيته ودعا بجاه النبي ﷺ يدل على ذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: "ادع الله أن يعافيني".
ورد الرسول ﷺ بقوله: " إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك ".
فتبين مما سبق أن الحديث ليس فيه ما يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي ﷺ أو بذاته إذ قوله: "بنبيك" على تقدير المضاف أي بدعاء نبيك أو بشفاعته". انظر: التوسل والوسيلة ص ٢٥٩.


الصفحة التالية
Icon