٣ - ذكر اهل العلم في أبدية النار، آراء كثيرة، وقد أشار شارح الطحاوية في أبدية النار ودوامها ثمانية أقوال، وهي (١):
أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة.
والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم! وهذا قول ابن عربي الطائي (٢).
الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود، ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: ﴿وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: ٨٠ - ٨١].
الرابع: أن أهل النار يخرجون من النار بعد حين، ثم تبقى النار على حالها ليس فيها أحد (٣).
الخامس: أنها تفنى بنفسها، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه! ! وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار.
السادس: تفنى حركات أهلها ويصيرون جمادا، لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف (ت - ٢٣٥ هـ).
السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئا، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمدا تنتهي إليه (٤).
ونسب هذا القول إلى عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي هريرة من الصحابة، وابن تيمية، وابن القيم (٥)، وجماعة (٦).
واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (١٢٨)﴾ [الأنعام: ١٢٨]، وقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٠٧)﴾ هود: [١٠٦ - ١٠٧]، قالوا: استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ وبقوله في الآية الثانية ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾ ولم يأتِ بعد الاستثناءين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة، فإن الآية ختمت بقوله تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨)﴾.
وأما الأحاديث والآثار التي يستدل بها القائلون بفناء النار، فهي كالآتي:
١ - حديث: «ليأتين على جهنم يوم كأنها زرع هاج، وآخر تخفق أبوابها" (٧)، وهذا حديث باطل موضوع.

(١) انظر: شرح الطحاوية: ٤٢٧ وما بعدها.
(٢) انظر: فصوص الحكم ١/ ١٦٩ - ١٧٠.
(٣) ذكر ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح ص ٢٤٩ أن شيخ الإسلام حكاه، ولم ينسبه لأحد..
(٤) ممن قال بهذا بعض المعاصرين مثل فيصل عبد الله في أطروحته التي تقدم بها لنيل درجة الماجستير إلى قسم العقيدة في جامعة أم القرى بعنوان (الجنة والنار والآراء فيهما) انظر: ٢٢٨، وعبد الكريم الحميد في القول المختار لبيان فناء النار.
(٥) انظر: حادي الأرواح ص ٢٤٨ - ٢٤٩.
وقد ذكر ابن القيم سبعة أقوال، فلم يذكر القول الثامن، ونقلها عنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري ١١/ ٤٢١ - ٤٢٢ وقال: (جمع بعض المتأخرين في هذه المسألة سبعة أقوال) ثم ذكرها، وزاد عليها ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية ٢/ ٦٢٤ - ٦٢٥ القول الثامن الذي هو قول أهل السنة والجماعة.
(٦) انظر: شرح الطحاوية: ٥٢٩، والرد على من قال بفناء الجنة والنار لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيق أ. د. محمد بن عبد الله السمهري: (ص ٥٣).
(٧) انظر: الموضوعات لابن الجوزي ٢/ ٤٣٧ مع اختلاف في اللفظ.
وهذا حديث باطل موضوع، وآفته: جعفر بن الزبير، وأيضاً الراوي عنه: عبد الله بن مسعر بن كدام.
أما جعفر بن الزبير، فقد وضع أربعمائة حديث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكذبه شعبة بن الحجاج، وقال ابن معين رحمه الله: ليس بثقة. وقال البخاري رحمه الله: تركوه، وقال ابن عدي -رحمه الله-: الضعف على حديثه بيّن، وذكر الذهبي - رحمه الله- هذا الحديث، وقال: إسناده مظلم. [انظر: الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ٢/ ٥٥٨ - ٥٦٠، ميزان الاعتدال للذهبي ١/ ٤٠٦ - ٤٠٧].
وأما عبد الله بن مسعر فهو متروك - أيضاً - وذكر الذهبي (ت - ٧٤٨ هـ) رحمه الله حديثه هذا وقال: هذا باطل. [انظر: ميزان الاعتدال للذهبي ٢/ ٥٠٢].


الصفحة التالية
Icon